الخميس، 28 مايو 2009

الأبارتيد الصهيوني

? للوهلة الأولى، قد يعتقد البعض أن اللاسامية المعكوسة تعني أن الإيديولوجيين الصهيونيين ينسبون إلى شعوب العالم الأخرى ـ غير اليهود، الصفات نفسها التي ينسبها اللاساميون لليهود أنفسهم، لأنهم يهود. وهذا صحيح إلى حد ما، لأن اللاسامية والصهيونية مصدرهما واحد وهو العنصرية، وكلاهما ينطلق من مقولات شوفينية وعنصرية تفترض، سلفاً وبشكل قاطع ونهائي، أنه من غير الممكن، في ظل أي نظام سياسي، أو أي تشكيلة اجتماعية ـ اقتصادية، أن تتعايش شعوب مختلفة في أخوة وتعاون ومساواة (1). ويتأكد هذا عندما نعرف أن الصهيونية نتيجة تزاوج غريب بين أساطير ومقولات توراتية والأسس العامة للإيديولوجية الألمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكما تطورت الإيديولوجية الألمانية في القرن العشرين إلى النازية، التي نادت بضرورة سيطرة العرق الآري على البشرية، أصرت الصهيونية على تفرد اليهود وتفوقهم على شعوب العالم، بل يعتقد جنرالات إسرائيل أن البشرية، ليست الا كرة، وجدت ليلهوا بها، لأن إسرائيل فوق كل القوانين والمواثيق، أو كما يقول اريئيل شارون «لا يحق لأي كان في العالم أن يقدم إسرائيل إلى المحاكمة، وليس هناك أحد يحق له أن يحيل الشعب اليهودي على محاكمة أمام محكمة شعوب العالم، بل العكس، لنا نحن دائماً حق محاكمة الآخرين» (2).‏

إلى ذلك، يرى آخرون، أن اللاسامية المعكوسة إنما تعني إعادة إنتاج العنصرية. وتعرف الموسوعة البريطانية العنصرية «بأنها النظرية أو الفكرة القائلة إن هناك علاقة سببية بين الصفات الجسدية الموروثة وبين صفات معينة متعلقة بالشخصية أو العقل أو الثقافة، ويضاف إلى ذلك فكرة أن بعض الأعراق متفوقة على أعراق أخرى بصورة ورائية. إن تعبير العنصرية، ليس مرتبطاً بالضرورة بالتفريعات البيولوجية أو الانثروبولوجية للعرق، الذي هو تقسيم فرعي للنوع، وغالباً ما يجري سحب الأفكار العنصرية بلا تمييز على مجموعات غير بيولوجية وغير عرقية مثل الطوائف الدينية والمجموعات اللغوية، والمجموعات الأثنية والثقافية» (3).‏

أما موسوعة لاروس، فتعرف العنصرية بمايلي:‏

«العنصرية هي نظام يضفي تفوقاً لجنس من الأجناس، أو سلالة من السلالات البشرية على بقية الأجناس والسلالات، وبصورة عامة، فإن العنصرية توجد في كل مرة تتشبع فئة من الناس بفكرة أن تفوقهم على غيرهم من الأجناس سببه النقاوة في سلالتهم وعدم اختلاطهم بأجناس أو سلالات أخرى، بل أن بعض الشعوب تنسب لنفسها نتيجة للنظرية العنصرية حق فرض آرائها وتصوراتها العنصرية على الآخرين، ولكن هذه النظرية (العنصرية) لا تبدو أنها قادرة على الدفاع عن نفسها من وجهة النظر العلمية، إذ إن السلالات والأجناس النقية قد اختفت من كوكبنا من زمن طويل، ومن ناحية أخرى من غير الممكن أن نتكلم عن تفوق سلالة أو جنس من الأجناس، لأن لكل جنس أو سلالة صفاتها وخصائصها، بل إن الشعوب التي تتكون من سلالات عديدة مختلطة هي التي أسهمت أكثر من غيرها في تقدم البشرية. ومن جهة أخرى، العنصرية من وجهة النظر الأخلاقية، معادية لمبادئ الإنسانية والعدالة والأخوة والرأفة والمساواة ولكرامة الإنسان واحترام الشخصية الإنسانية. إن العنصرية تشكل اعتداء على المدنية وعلى الضمير الخلقي، فضلاً عن أنها تمت بصلة للديكتاتورية، فيما تنظر إلى الأفراد، لا حسب أهميتهم ومزاياهم الشخصية، ولكن على أساس تبعيتهم للجنس الفلاني أو الآخر الذي فرض عليهم مسبقاً (4).‏

وأخيراً عرفت الأمم المتحدة التمييز العنصري في المادة الأولى من ميثاقها بشأن إزالة جميع أشكال التمييز العنصري الصادر في 20/12/1965 كمايلي:‏

«في هذا الميثاق تعني عبارة التمييز العنصري، أي تمييز أو استبعاد أو تقييد على أساس العرق أو اللون أو السلالة أو الأصل القومي أو العرقي، ويكون الغرض منه أو نتيجته الغاء أو تعديل الاعتراف أو الاستمتاع أو الممارسة، على قدم المساواة، لحقوق الإنسان والحريات الأساسية في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أو أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة» (5).‏

إلى حد ما، قد يكون هذا الفهم للاسامية المعكوسة صحيحاً، إذ إن الصهيونية أوجدت، ومن الناحية العملية، وبرغم المظاهر البراقة للديمقراطية الإسرائيلية المزعومة كياناً ينقسم الناس فيه إلى فئات على أساس عرقي، تحدد مكانتهم الاجتماعية وامتيازاتهم استناداً إلى ذلك. ومن الحقائق التي لا يستطيع أحد في إسرائيل إنكارها، قضية التمييز ضد اليهود الشرقيين، الأوضاع اللاإنسانية التي يعيش في ظلها اليهود الأحباش (الفلاشا)، الحرمان من معظم الخدمات للقرى الدرزية والبدوية التي يفرض على أبنائها الخدمة في الجيش الإسرائيلي، الصدامات بين المتدينين والعلمانيين، وأخيراً قضية اللاتعايش بين اليهود المغاربة واليهود الروس، هاتان الجاليتان اللتان تشكلان قوى صاعدة في المجتمع الإسرائيلي وتحاولان أن تؤثرا في الحياة السياسية الإسرائيلية من خلال أحزابهما ـ حركة غيشر التي يتزعمها ديفيد ليفي، المشكلة أساساً من يهود مغاربة، وحزبي إسرائيل بيتنا ويسرائيل بعاليا، المشكلين من اليهود الروس. وهذه صورة للوضع داخل مدينة كريات جات التي يسكنها الروس والمغاربة، كما صورتها جريدة «بلدنا» الناطقة باللغة الروسية في ملحق يوم الجمعة بتاريخ 3/12/1998. تقول الجريدة إن سياسة بوتقة الصهر الشهيرة التي تحدثت عنها الصهيونية، ليس فقط أنها لا تربط بينهم، بل على العكس من ذلك، فقد أنشأت نقيضها على صورة أشكال جديدة من العزل، فالغيتو الجسماني، تحول إلى غيتو ثقافي وغيتو في أسلوب التفكير.. فالروسي لا يستطيع أن يقترب من الغيتو المغربي... لم ير القادمون الجدد، ومنذ اللحظة الأولى في السكان القدامى لكريات جات إخوانهم اليهود، ومنذ اللحظة الأولى لم يحب السكان القدامى القادمين الجدد ـ هؤلاء الاشكناز الذين أتوا إلى المدينة بأعداد كبيرة (6). وفي استفتاء قام به معهد الأبحاث الاجتماعية والسياسية في إسرائيل وبالتعاون مع معهد موتاغيم. وشمل 1200 شخص من اليهود الروس، ونشرت نتائجه في جريدة أخبار الأسبوع الناطقة باللغة الروسية في عددها الصادر في 20/11/1998، نجد النتائج التالية: (7)‏

ـ 73% يعتقدون أن التناقض الاثني يتفاقم في إسرائيل.‏

ـ 53% أجابوا أنهم اصطدموا بحوادث تمييز على خلفية أثنية.‏

ـ 49% يعتقدون أن التجمع الروسي يتعرض للتمييز على خلفية أثنية في إسرائيل.‏

ـ 56% يعتقدون أن التناقض الاثني سيستمر ويتصاعد على إسرائيل.‏

ولا شك أن قراءة دقيقة لنتائج هذا الاستطلاع تعطينا فكرة عن توجهات فئات مختلفة من الشعب الإسرائيلي، وكذلك عن أفكارها نحو المستقبل. وهذا يدعم مسلمة سياسية هامة وهي أن الصهيونية غير القادرة على إقامة السلام العادل والدائم مع العرب، لأنه يتناقض تناحرياً معها ويعني نهايتها المحتومة، هي أيضاً غير قادرة على إقامة السلم المجتمعي بين مختلف المكونات الاثنية للمجتمع الإسرائيلي.‏

ما المقصود إذن باللاسامية المعكوسة؟‏

قبل الإجابة عن هذا التساؤل، سأورد ما قاله اليكس سايل في جريدة الاندبندت البريطانية ونقلته الأهرام ويكلي AL - Ahram Weekly في عددها الصادر في 15/2/2001 يقول الكاتب:‏

«مسألتان كانتا تصفعاني على الدوام: هما نشأة دولة إسرائيل غير الطبيعية ومشكلة الفلسطينيين التي أصبحت قضية مهملة في العالم. فالشعب العربي المسالم لم يلحق الأذى باليهود الهاربين من مجازر أوروبا. وعندما أرادت الصهيونية تأسيس وطن لهم، لماذا لم تقتطع أرضاً من ألمانيا؟! السبب أن الصهيونية لم تكن تنظر إلى العرب على أنهم صنف من البشر، وكان الغرب يشارك الصهيونية هذه النظرة. وعليه سرقت أموالهم وأراضيهم وقتلوا دون أن ترف جفونهم... ويخلص الكاتب إلى الحقيقة التالية: «الحقيقة أن إسرائيل هي الحصن الأخير للاستعمار، وآخر مستعمرة أسستها أوروبا البيضاء في العالم الثالث، وهي عبارة عن حاملة طائرات لحماية المصالح النفطية وكأسفين بين الدول المنتجة للنفط» (8).‏

وهذا يساعدنا في شرح مفهوم اللاسامية المعكوسة، والذي لابد أن يعني أن الصهيونية، التي استخدمت اليهود كوقود لحروبها، التي تخوضها لأهداف سياسية تمليها مصالح الدول الراعية للمشروع الصهيوني في فلسطين، كذلك، أملت مصالحها ومخططاتها السياسية أن تتحالف مع قتلة اليهود في روسيا القيصرية، وإيطاليا الفاشية، وألمانيا النازية، وأن سياسة القادة الإسرائيليين الحالية القائمة على تصوير إسرائيل كحاملة طائرات للولايات المتحدة في المنطقة، ستجلب الدمار والويلات لليهود أنفسهم.‏

ويبدو أن الرغبة في أن تعيش إسرائيل، كدولة، على حد السيف إلى الأبد، كما ينقل يوئيل ماركوس من صحيفة هآرتس في 13/4/2001 عن اريئيل شارون، رئيس وزراء إسرائيل، وكما نقل كتاب آخرون عن موشي دايان، وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق، هذه هي أيضاً رغبة من يسمون بمفكري اليسار الإسرائيلي (9). ففي مطلع عام 2001 نشرت صحيفة هآرتس مقالاً مدفوع الأجر وقع عليه ممثلو اليسار الإسرائيلي، أعلنوا فيه موقفهم الواضح والصريح الرافض لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى منازلهم وأراضيهم التي تشكل دولة إسرائيل، ومن بين الموقعين على المقال الروائي والمفكر الإسرائيلي المعروف عاموس عوز، الذي نشر بالإضافة إلى ذلك مقالاً في صحيفتي الغارديان البريطانية ويديعوت أحرونوت الإسرائيلية قال فيه إن المطالبة بحق عودة اللاجئين يعني أنه بدل دولتين لشعبين ستكون هناك دولتان عربيتان، والحل الذي يقدمه عاموس عوز لا يختلف كثيراً عن الحل الذي طرحه جابوتنسكي، مؤسس حيروت، قبل سبعين عاماً، ويدعو لإقامة جدار حديدي للفصل بين العرب واليهود (10). يقول فلاديمير زئيف جابوتنسكي! «لا جدال، ولا بأي شكل من الأشكال حول إمكانية قيام صلح طوعي حديدي لا يستطيع سكان فلسطين اختراقه (11)». هل صدفه أن ايهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل العمالي كان في آخر أيامه يطالب بإقامة جدار للفصل بين العرب واليهود أم أنه لا فرق بين الليكود والعمال عندما توضع حقوق العرب في الميزان؟‏

الصهيونية واستغلال الدم اليهودي‏

اختلف الفلاسفة في تعريف الإيديولوجية، فقال بعضهم أن الإيديولوجية مجموعة من الأفكار المتكاملة والمتسقة مع بعضها، تستخدمها جماعة من الناس لتكوين مرجعية لنظرتها إلى العالم، ولتقديم الأجوبة عن التساؤلات المتصلة بالأحداث الجارية في العالم، مسارها، وآفاق تطورها على المدى القريب والبعيد، محلياً وإقليمياً وعالمياً، وأخيراً تقديم المعايير المعرفية وحتى الأخلاقية للتمييز بين الصح والخطأ، الخير والشر، التكتيكي والاستراتيجي، والمرحلي والدائم (12). وقد تستند الإيديولوجيا في تقديم نظرتها الشاملة للعالم إلى مرتكزات أساسية ترتقي إلى درجة المسلمات البديهية لدى اتباع الإيديولوجيا، وتشمل، ضمن أشياء أخرى الغيببيات Metaphysics، وما وراء التاريخ، Metahistory وكلاهما يشكلان أهم مرتكزين للإيديولوجيا الصهيونية أو التاريخية Historicity، الصراع من أجل البقاء، النظرة المادية للكون...إلخ. ويلجأ اتباع الإيديولوجيا إلى هذه المفاهيم لاستنباط الإجابات والحلول، أو توليدها، عندما تواجههم تحديات خارجية أو متغيرات ما (13).‏

ويعتقد آخرون أن الإيدلولوجيات من أكثر وسائل تشكيل العقل في العصر الحديث Means of Indoctrination، ويرى هؤلاء أن الإيديولوجيا هي جملة وجهات النظر السياسية والأخلاقية والحقوقية والدينية والفنية والاجتماعية والاقتصادية التي تعكس مصالح هذه الطبقة أو تلك، واستناداً إلى ذلك قال بعض المفكرين إن الصهيونية هي إيديولوجيا الفئات الأكثر رجعية بين اليهود (14).‏

ثمة تعريف ثالث للإيديولوجيا يقول: إنها شكل من أشكال الفلسفة الاجتماعية السياسية ـ الاقتصادية والعناصر العملية فيها على القدر نفسه من الأهمية مع العناصر النظرية. ويقول تعريف رابع للإيديولوجيا بأنها منظومة فكرية متكاملة لتفسير التاريخ والمجتمع بشكل شامل وتفسير وتسويغ التغييرات الجارية في العالم (15).‏

ولخلق المجتمع المنشود، حاولت مختلف الإيديولوجيات إيجاد الإنسان الملائم لها. فتحدث أفلاطون في جمهوريته عن الملك الفيلسوف، وتحدث زعماء الإمارات والممالك الأوروبية في العصور الوسطى الذين شنوا الحروب الصليبية عن «القديس المحارب». وآمنت الفاشية، كما يقول موسوليني، بضرورة خلق الإنسان الذي يناسب أهدافها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وضرورة أن يكون قديساً ومحارباً في الوقت نفسه، وسعت النازية لخلق الإنسان المؤمن بالنظرية الآرية، المتفوق على ذاته، المؤمن أن الشعوب الأخرى وجدت لخدمته. (16) أما الصهيونية فقد سعت لتحقيق الهدف ذاته، من خلال خلق الإنسان المشبع بالأنا المطلقة للصهيوني ويضعها خارج، بل فوق كل القيم والمبادئ والقوانين. أو كما يقول فلاديمير جابوتنسكي: إذا سئلت «من أنت؟» أجيب «أنا ابن نفسي!» وفي مناسبة أخرى يقول جابوتنسكي مخاطباً أنصاره: «كل إنسان آخر على خطأ، وأنت وحدك على صواب. لا تحاول أن تجد أعذاراً من أجل ذلك، فهي غير ضرورية، وغير صحيحة، وليس بوسعك أن تؤمن بأي شيء في العالم، إذا اعترفت، ولو مرة واحدة أنه ربما يكون خصومك على صواب. لا توجد في العالم إلا حقيقة واحدة، وهي بكاملها ملكك أنت. وإذا لم تكن واثقاً فابق في بيتك، ولكن إذا كنت واثقاً لا تتطلع إلى الوراء، وستأتي في اتجاهك» (17).‏

والإنسان الذي خلقته هذه التربية، باعتراف ليون أوريس مؤلف رواية الخروج The Exodus، وهو كاتب معروف بعدائه الشديد للعرب، ومن أكثر مؤيدي الحركة الصهيونية، غريب حقاً. لنقرأ ما يقول ليون أوريس: «لقد خلقنا جيلاً من الطرازنات ليدافعوا عن إسرائيل. إننا لا نستطيع أن نعطيهم غير حياة من دماء... إن الجيل الإسرائيلي يرفض الوصايا العشر... هنا أرادنا الله أن نكون على الجبهة... لقد أخبرني جنودي أنهم يريدون أن يعبروا الحدود إلى جبل سيناء ليعيدوا الوصايا العشر إلى الله لأنها لم تعطنا إلا المصائب (18).‏

ولخلق هذا الجيل، احتاجت الصهيونية إلى زرع عدد من الأساطير المؤسسة لنظريتها ولدولة إسرائيل في أذهان يهود العالم.‏

1ـ اللاسامية أو أبدية العداء لدى شعوب العالم وكراهيتهم لليهود كيهود، واستغلت هذه الدعاية لعزل اليهود عن بقية الشعوب ومنع اندماجهم بها، في الوقت الذي تحالفت فيه الحركة الصهيونية مع أكثر أعداء اليهود دموية وبطشاً.‏

2ـ تفوق اليهود على بقية شعوب العالم، وهذه النظرية العنصرية في جوهرها، مأخوذة أساساً من المعتقدات السائدة لدى القبائل البدائية التي كانت كل منها تعد نفسها الأكثر تفوقاً على غيرها، أكثر من ذلك، وفي عصر كانت القبيلة هي المجال الحيوي للفرد، ملاذه وقدره، لا يستطيع تجاوزه ولا غنى له عنه، كما يقول علم النفس الاجتماعي التاريخي. فقد كان الاعتقاد السائد هو أن الخير من القبيلة وفيها، ولا يأتي من خارجها غير القوى الشريرة والمصائب. ومن يقرأ الأدبيات الصهيونية، يجد كماً هائلاً من البراهين على ذلك.‏

3ـ تفرد اليهود واختلافهم عن بقية شعوب العالم. إذ إن مجتمعاتهم لا طبقية، وعلاقاتهم داخل مجتمعاتهم مختلفة عن بقية شعوب العالم، يضاف إلى ذلك، أنهم وفق هذه المزاعم يشكلون أمة عالمية فوق ترابية، تمتاز عن غيرها بنقاء الدم، وكأن اليهود لم يمتزجوا بالعالم ويتزاوجوا معه. وكأن الزواج المختلط ليس من أكبر المشكلات التي تؤرق قادة الحركة الصهيونية ودعاتها.‏

وثمة أسئلة كثيرة من الناحية العلمية تدحض هذه الإدعاءات ومنها كيف نفسر رابطة الدم بين اليهودي الأنكلو سكسوني، واليهودي العربي، واليهودي الإيراني واليهودي في بلاد الخزر، يهود الفلاشا والزنوج العبرانيين؟ لماذا يتم التمييز ضد اليهود الشرقيين، يهود الفلاشا والزنوج العبرانيين ما دامت دماؤهم يهودية نقية؟ ما هي علاقة اليهود المعاصرين باليهود القدماء في مملكة يهوذا قبل 3000 سنة؟‏

4ـ المصير المشترك لليهود، لأن ديانة اليهود قومية. وإضافة إلى الاستلاب العقلي الذي تشكله مجموعة الأساطير المؤسسة للصهيونية والتي تجعل الخرافات والأساطير تتحكم بعقول البشر، وتقرر مصيرها، تسعى الصهيونية إلى زرع ما يعرف بذهنية الكارثة.أي الخوف الدائم من مصيبة قادمة يقول موشي دايان، وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق: «إن إسرائيل مرتكزة على السيف، هذا هو قدر جيلنا... خيار حياتنا أن نكون مستعدين ومسلحين، أقوياء وغلظاء، وإلا سوف يسقط السيف من قبضتنا. وحينئذ تنتزع حياتنا» (19).‏

ذهنية الكارثة‏

المقصود بالذهنية مجموعة الآراء والأفكار والمعتقدات التي تتحكم بسلوك الفرد أو المجتمع وردود أفعاله على المتغيرات المختلفة، وهذا بالضرورة يعني المجتمع الذي خلقته الصهيونية وزرعت فيه أفكارها ومعتقداتها من خلال:‏

1ـ وسائل الإعلام المختلفة المقروءة والمسموعة.‏

2ـ المدرسة والجامعة، سواء من خلال الكتب المدرسية للتاريخ والأدب أم من خلال التفسيرات التي تقدمها تلك الكتب للأحداث التاريخية.‏

3ـ المؤسسة الدينية، ذات التأثير الواسع جداً سواء عبر الأحزاب الدينية، أو المؤسسات الدينية، أو المدارس الدينية، أو أخيراً عبر الكنس.‏

4ـ الجيش، الذي يعد أكبر مؤسسة تعليمية في إسرائيل، خصوصاً إذا أخذنا في الحسبان أن الحاخامية العسكرية تشرف على التوجه السياسي والديني فيه.‏

أما المقصود بالكارثة هو الإدعاء أن اليهودي يعيش في حالة خطر دائم يتهدده لأنه يهودي. ومن اللافت للنظر أن قادة الحركة الصهيونية وإسرائيل يتمسكون بترويج هذه الإدعاءات بغض النظر عن التطورات الإقليمية والعالمية، حتى ولو كانت إسرائيل من حيث القوة العسكرية تعد من بين أقوى خمس دول في العالم.‏

لنقرأ بعض الأمثلة عن الإدعاءات الإسرائيلية والصهيونية:‏

1ـ تتحدث غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة عن ذكرياتها عن مرحلة الطفولة التي عاشتها، وكيف أنها كانت دائماً تخشى حدوث مذبحة ضد اليهود في بلدتها كييف، إلا أن الخوف وما رافقه من استنتاجات لاحقة تنطبق، وفق رأيها على كل زمان ومكان. إنها لا تروي مذكراتها بل تريد أن تسهم في تربية جيل كامل يكون الذعر والخوف من الآتي هما الأساس في حياته:‏

«لم تحدث تلك المذبحة إطلاقاً، لكنني إلى هذا اليوم، ما زلت أذكر مدى خوفي وغضبي لأن الشيء الوحيد الذي كان والدي يستطيع أن يفعله لحمايتي وأنا انتظر الرصاص أن يأتي ويخترق جسدي هو أن يضع بضعة ألواح خشبية على الباب. وأتذكر أكثر من أي شيء آخر، أن ما يجري لي سببه فقط أنني يهودية. وقد راودني هذا الشعور مرات عدة في حياتي... الخوف... الشعور بأنني منبوذة، والإدراك أنني مختلفة عن الآخرين» (20).‏

ولإعطاء فكرة واضحة حول تطور هذا المنهج في التربية الفكرية والتثقيف السياسي لليهود، وفي سبيل دراسة التطور التاريخي لهذه العملية المنهجية المتكاملة من جهة، والداعمة لكل أشكال التربية الدينية والسياسية والاجتماعية في أوساط اليهود وداخل إسرائيل لاحقاً، سوف نقسم البحث إلى ثلاث مراحل:‏

1ـ المرحلة الأولى: وتشمل الوضع السائد في روسيا ودول أوروبا الوسطى قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى.‏

2ـ المرحلة الثانية: تعاون الصهيونية مع النازية والفاشية.‏

3ـ المرحلة الثالثة: بعد قيام إسرائيل.‏

وسيهتم البحث أيضاً بفضح المفارقة الصارخة بين الإدعاءات الصهيونية، وممارساتهم الفعلية، أي كيف تحالف هؤلاء مع القتلة الحقيقيين اليهود.‏

المرحلة الأولى..‏

في 24/10/1985، نشر الكاتب الإسرائيلي المعروف موريس كوهين مقالاً في صحيفة هآرتس صرح فيه: «يخيل إلي أنه لا يوجد معادون للسامية أكثر من اليهود أنفسهم». ألا يبدو هذا متناقضاً مع اتهام الصهيونية لكل أعدائها وخصومها بالعداء للسامية؟ هل يعقل أن زعماء اليهود كانوا على الدوام من أهم حلفاء أعداء السامية؟! ألم تتحول كلمة اللاسامية إلى أداة لقمع كل الخصوم والمناوئين حتى من بين اليهود أنفسهم؟ هذا على الأقل ما نفهمه عند قراءة ما يقوله جان بونبيرو، الكاتب اليهودي الفرنسي في مقال له بعنوان «الفسلطينيون... الغرب ودينية اللسان».‏

«اللاسامية كلمة مليئة بالدم والحقد الصوفي والغدر الآثم وعقدة الذنب.. كلمة مكيفة من قبل تاريخ فرنسا في الحروب الصليبية إلى دريفوس وبيتان.... كلمة لاسامية الآسرة المتسلطة الوسواسية... تنفذ وتنبسط وتفرض نفسها، تقيم التحالفات، تجر وراءها تداعيات أفكار... تعلق على الجدار، وتطرد أصغر طرف يحاول أن يعيق قليلاً دولاب الخطاب» (21).‏

لا شك أن الإجابة عن التساؤلات التي طرحت في الأسطر القليلة السابقة تفرض علينا العودة قليلاً إلى الوراء.‏

يطلق مصطلح السامية والساميين على الشعوب التي يعتقد أنها انحدرت من صلب سام بن نوح، وقد ظهر هذا المصطلح عام 1781 واستخدمه أول مرة العالم النمساوي شلوتزر، ويلقى معارضة علماء الأجناس. أما مصطلح اللاسامية فلم يكن معروفاً حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وقد ظهر أول مرة في المقالات التي نشرها هنريخ فون ترتسينج حول القضية اليهودية (22). وهذا يعني أن اللاسامية ألمانية المولد، ولم تنشأ في روسيا رداً على الظروف الصعبة جداً التي كان اليهود هناك يعيشونها.‏

وتؤكد كتابات عدد كبير من الكتاب الصهاينة أن اللاسامية ظهرت وترعرت في ألمانيا في أواخر السبعينيات في القرن التاسع عشر. ومن بين الكتاب الذين يؤكدون أن اللاسامية ألمانية المنشأ نذكر البروفيسورة شولاميت فولكوف أستاذ التاريخ الحديث في قسم التاريخ، عضو الأكاديمية الألمانية للتاريخ، وهي محاضرة في جامعة تل أبيب، ولها بحث بعنوان: «اللاسامية الألمانية والفكر القومي اليهودي»، نشر باللغة الألمانية عام 1979، وترجم إلى اللغة الإنكليزية عام 1981، وكذلك الكاتب م. ما سينج فولف مؤلف كتاب «إعادة التدمير».. دراسة في الفكر اللاسامي في الإمبراطورية الألمانية» وطبع في نيويورك 1949، والكاتب ب.ج. بلزر مؤلف كتاب «صعود اللاسامية في ألمانيا والنمسا» وقد نشر في لندن عام 1964.‏

أكثر من ذلك، يعترف المفكرون الصهاينة بهذه القضية، أي أن اللاسامية ألمانية المنشأ، وإن كان بعضهم يقول إن منشأها أوروبا الغربية بشكل عام. (23) حتى المفكرون الصهاينة المولودون في روسيا كانوا يطرحون أمثلة عن اللاسامية من الأحداث التي شهدتها ألمانيا. وإليكم ما يقوله الكاتب الصهيوني المعروف آحاد هاعام: «لقد عانينا نحن اليهود في الشرق من الفقر والجهل والإذلال... لكن يهود الغرب كانوا في ظل التبعية الروحية والأخلاقية، وأصبحوا عبيداً لحقوقهم» (24).‏

ويعتبر موسى هيس Moses Hess (1812 ـ 1875) وهو مفكر اجتماعي صهيوني من أصل ألماني من أوائل الكتاب الذين حاولوا استغلال اللاسامية لمهاجمة اندماج اليهود وأنصارهم في الحضارة الغربية، وادعى موسى هيس «أن البشرية بحكم تكوينها العضوي عاجزة عن التقدم بدون اليهود» (25). أما يهودا لايب بنسكر المعروف باسم ليوبنسكر Leo Pinsker (1812 ـ 1891)، وهو طبيب مفكر يهودي من أصل روسي، فقد عرف اللاسامية بأنها مرض موروث لدى شعوب العالم، وأن كراهية الشعوب لليهود مسألة نفسية: «إن اللاسامية مرض لا يمكن علاجه. لأنه ينتقل من الأب إلى الابن، وإن التقدم الاجتماعي مهما عظم لن يقتلعه إلا إذا تغير وضع اليهود جذرياً» (26). وبالغ حاييم وايزمن Chaim Weizmann (1874 ـ 1952) في آرائه وقال إن اللاسامية مسألة نفسية، وهي باقية ما دام اليهود موجودين (27).‏

المذابح في روسيا وموقف الصهيونية منها..‏

عرفت المذابح التي وقعت ضد اليهود في روسيا القيصرية بـPogroms ومن يبحث عن معنى هذه الكلمة في أي معجم سيقرأ مايلي:‏

«إنها القتل المنظم للناس البائسين، وبالتحديد، قتل اليهود» هذا ما يقوله قاموس Webester. أما قاموس Longman فيقول «إنها القتل المنهجي لأعداد كبيرة من الناس، خصوصاً اليهود، يجري تنفيذه على أساس العرق أو الدين». وعندما تطلق هذه التسمية على هذا النوع من الجرائم ضد البشرية، فالمقصود منها أن تثبت في وعي الناس كي لا تنسى.‏

ولدى مراجعة مؤلفات كبار الكتاب الصهاينة من أصل روسي أو الذين عاشوا في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أو مطلع القرن العشرين نجد إشارات كثيرة لهذه المذابح. لكن الغريب في الأمر والذي يدهشنا أن قادة الصهاينة لا يدعون اليهود للتمرد أو الاشتراك في الحركات الثورية المعادية للقيصر، بل يستغلون هذه المذابح لتحريض اليهود وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين، وإليكم بعض الأمثلة:‏

1ـ الحاخام زفي هيرتس كاليشر. Rebbi Zvi H Kalisher (1795 ـ 1874) وهو كاتب بولوني الأصل عاش في روسيا، وكانت الأخيرة في تلك الفترة تحتل بولونيا. لم يتطرق الكاتب المذكور إلى المجازر في كتابه «السعي إلى صهيون» Derishat Zion، بل كرس الديانة اليهودية لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين، واعداً بأن الله سوف يعجل يوم الخلاص المرتقب حين يرى إقبالهم على الذهاب إلى فلسطين وتطوعهم للاستيطان فيها. «وما الاستيطان في فلسطين واستعمارها سوى ذلك العمل الذي يتيح لنا مراعاة الوصايا الدينية المتعلقة بالعمل في الأرض هناك» (28).‏

2ـ بيرتز سمولنسكين Peretz Smolenskin (1842 ـ 1885) وهو روائي وداعية صهيوني، فقد والده في المذابح وأّخذ أخوه للخدمة في جيش القيصر ولم يعد، وقد شهد أكثر المذابح بشاعة. من أشهر كتبه «المتجول في سبل الحياة» الذي يدعو فيه للهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، إذ يرى أن العدو الأول لليهود في العالم هو حركة التنوير اليهودية «الهاسكالا» التي دعت لاندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها.‏

وفي عام 1881 نشر كتابه المعروف «لنبحث عن طرقنا» وفيه يصف المذابح ضد اليهود لكن الحل الذي يدعو إليه هو الحصول على موافقة الحكومة الروسية على الهجرة إلى فلسطين:‏

«نزلت المصيبة تلو المصيبة، والكارثة تلو الأخرى على يهود روسيا، ولم يترك حجر على حجر في كثير من المجتمعات. لقد نهبت متاجر أخوتنا، وحطم الرعاع كل شيء لا يستطيعون حمله، وقتل يهود كثيرون، كما جرح عدد لا يحصى. وكان الرعاع المتوحشون كالذئاب التي تبحث عن فريستها يعاملون اليهود بقسوة بالغة، لا مثيل لها منذ العصور الوسطى، حتى في تلك المدن التي يسمح لليهود بالعيش فيها، كانوا يسجنون ويتركون كي يموتوا جوعاً. ولم يستطع أصحاب الصناعة منهم أن يكسبوا غير عيشة البؤس... عمل اليهود كل جهدهم... وما زالوا يعيشون في رعب، فقد تبدأ المذابح ثانية... لماذا لا نهاجر إذا سمحت لنا الحكومة؟ لا مكان يمكن التفكير فيه سوى إسرائيل». (29).‏

ومن المعروف أن النظام القيصري الروسي أصدر عام 1881 أوامر حدد بموجبها المدن التي يسمح للعامة من اليهود العيش فيها. ووضع أيضاً حلاً للمسألة اليهودية وذلك عن طريق تحويلهم إلى المسيحية أو تهجيرهم. وأصدر القيصر ألكسندر الأول قرارات أجبرت اليهود على ترك مهن معينة ليتحولوا إلى الزراعة.‏

3ـ اليعيزر بن يهوذا Eliezer Ben Yehudah (1858 ـ 1923) يهودي من ليتوانيا، وكانت تابعة للسيادة الروسية. لم يتطرق في كتاباته إلى اللاسامية الروسية، بصدد المذابح ضد اليهود، بل اكتفى بالدعوة إلى الهجرة إلى فلسطين.‏

4ـ موشيه لايب ليلنبلوم ـ Moshe leib lilienblum (1843 ـ 1910) من أشهر كتبه «طريق العودة» الذي يقدم فيه وصفاً مفصلاً وتاريخياً للأحداث يوماً بعد يوم. وهذا مثال:‏

«في 20 آذار (مارس) 1881 قالت المجلات المحلية إن جماهير الشعب تستعد لمهاجمة اليهود خلال عطلة عيد الفصح. ويبدو أن أعداء السامية غير مكتفين بالمجاعة التي تفتك باليهود في أماكن سكنهم المخصصة لهم، فهم يحرضون الجماهير على السلب والنهب.‏

في 17 نيسان (أبريل) 1881 تقارير خطيرة من مدينة اليزابيتجراد، مظاهرات ونهب وهلع يسيطر على القلوب.‏

وفي 28 نيسان (أبريل)، بدأت الأنباء السيئة تصل من كييف. وفي 5 أيار (مايو) 1881، الحالة مخيفة، نحن في الحقيقة، محاصرون، أحيطت الساحات بالقضبان، ونحن ننظر من خلال الحواجز إذا كان الرعاع سيهاجمون.‏

وفي 7 أيار (مايو)، اقتربت المظاهرات من البيت، صرخت النساء، وهن يحتضن أطفالهن إلى صدورهن محاولات الاختباء، وقف الرجال جانباً مذهولين».‏

ترى كيف يرى ليلنبلوم الخلاص من هذا الوضع الرهيب. «إن الخلاص هو خدمة القومية اليهودية... من أراد أن يساند القومية اليهودية عليه أن يدفع كوبيكاً واحداً أسبوعياً في صندوق مخصص في كل بيت من أجل الاستيطان في أرض إسرائيل» (30).‏

5ـ يهودا لايب بنسكر 1821 ـ 1891 معروف باسم ليو بنسكر Leo Pinsker، مؤلف كتاب «التحرر الذاتي»«Auto Emancipation» شهد كل المذابح التي وقعت ضد اليهود في روسيا ما بين 1871 و1882، لم يهتم إلا بحقيقة واحدة وهي هجرة اليهود الروس إلى فلسطين.‏

«اليهود بمنزلة الضيوف في كل مكان، وليسوا أصحاب منزل خاص بهم، العداء للسسامية يسود العالم أجمع... وحده الخوف من اليهودي... هذا الخوف أصبح مرضاً نفسياً توارثه الناس عبر ألفي عام ولا أمل بشفائهم «العلاج الوحيد الذي يؤمن به هو جمع المال للاستيطان في فلسطين» (31).‏

بعد الأدلة الواضحة التي سقناها، نستطيع القول إن قادة الحركة الصهيونية استغلوا ما يسمى بالمحرقة التي كان اليهود يعيشونها، لتربية اليهود على الخوف الدائم وعدم الاستقرار والشعور بالأمان في ظل التهديد الدائم بالإبادة، من جهة، ودفعوا اليهود للهرب من روسيا والهجرة إلى فلسطين تحقيقاً لأهداف المشروع الصهيوني. لكنهم وبالشكل الملموس منعوا اليهود من الدفاع عن أنفسهم، التحالف مع أصدقائهم الطبيعيين وحلفائهم المعادين للقيصر، وبالتالي قدموا خدمة جليلة للسلطات الروسية. وبعد انعقاد مؤتمر بال 1897، بات واضحاً أن ثمة تحالف يقوى ويتعزز بين تيودور هرتزل والسلطات القيصرية الروسية وهذا ما سنتطرق إليه الآن.‏

هرتزل وكارثة اليهود الروس‏

في الوقت الذي كانت فيه الحكومة الروسية القيصرية تفرض القيود على حركة اليهود وتحدد أماكن سكنهم والأعمال التي يحق لهم ممارستها، كانت القيادة الصهيونية تقيم أوثق العلاقات وأشدها متانة مع منظمي ما يسمى بالمذابح ضد اليهود، وخصوصاً وزير الداخلية فاتسلاف فون بيلفي. وصل هرتزل إلى روسيا في آذار (مارس) 1896. الهدف الأساسي من زيارته كان البحث عن إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الحركة الصهيونية والحكومة الروسية القيصرية. فتكون هذه الاتفاقية منسجمة مع مخاوف السلطات القيصرية من حالة عدم الاستقرار السياسي داخل الأراضي الروسية، وفي الوقت نفسه تؤدي إلى زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومساعدة روسيا الحركة الصهيونية بالضغط على السلطات العثمانية لإعطاء الحركة الصهيونية ترخيصاً بالهجرة اليهودية إلى فلسطين. وقد لمح تيودور هرتزل أثناء المباحثات مع وزير الداخلية الروسي: «إنه في حال عدم توسط القيصر الروسي لدى السلطان العثماني من أجل السماح بهجرة يهودية منظمة إلى فلسطين، فإن الحركة الصهيونية لا تستطيع منع الكارثة المتمثلة في تحول اليهود الروس إلى تبني الأفكار الثورية الهدامة»(32). (لاحظ أن الكارثة بالنسبة لهرتزل ليست المذابح ضد اليهود بل تحولهم إلى الأفكار الهدامة!).‏

وفي كتاب طلب المقابلة مع القيصر الروسي، قال ثيودور هرتزل:‏

«إن حركتنا تهدف إلى إضعاف الأحزاب الثورية، فنحن اليوم نحارب الثوريين في كل مكان، كما نعمل على إبعاد الطلاب والعمال اليهود عن الاشتراكية الفوضوية وذلك بتعريفهم على فكرة قومية مثالية ونقية»(33).‏

وفي 4/3/1896 كتب ثيودور هرتزل في مذكراته:‏

«إن أكثر المناصرين حماسة هو عدو السامية البطرسبرجي إيفان سيرجي فيته وزير المالية الروسي الذي كان يقول للقيصر الروسي المسكين ألكسندر الثالث: لو كان من الممكن أن تغرق في البحر الأسود ستة أو سبعة ملايين يهودي لرضيت بذلك، لكن هذا غير ممكن، إذ ينبغي تركهم يعيشون».‏

وعندما كان هرتزل يقول أنه ينتظر من الحكومة الروسية بعض التشجيع، كان الوزير الروسي يجيب: «وهل نقوم بتشجيع اليهود على الهجرة بركلهم مثلاً» ويختم هرتزل هذه الفقرة في مذكراته قائلاً: «يعترضون علي بشكل معقول بأنني ألعب لعبة أعداء السامية.. كأن أعداء السامية على حق ونحن لا نحسدهم على ذلك، لأننا أيضاً سنكون سعداء»(34).‏

وفي عام 1903 حصل ثيودور هرتزل على موافقة وزير الداخلية الروسي بيليفي على التعاون بين الطرفين الروسي والصهيوني لخفض عدد السكان اليهود في روسيا ـ فدشن بذلك تقليداً مشؤوماً على اليهود في كل أنحاء العالم سيتم اتباعه وتقليده لاحقاً إذ تحصل الصهيونية على عشرات الآلاف من المهاجرين إلى فلسطين مقابل موت مئات الآلاف منهم في السجون ومعسكرات الاعتقال(35).‏

الخلاصة:‏

لم تدخر الحركة الصهيونية جهداً في نشر الأحاديث والأخبار عن المذابح ضد اليهود في روسيا بهدف زرع الخوف وذهنية الكارثة بين اليهود لدفعهم للهجرة إلى فلسطين، وقد تعاونت في سبيل ذلك مع منظمي المذابح ضد اليهود وخصوصاً وزير الداخلية الروسي بيليفي. وإذا كان البحث قد اقتصر على الإشارة إلى الأحداث الجارية في روسيا، فهذا لا يعني أننا نتجاهل الأحداث ضد اليهود في أماكن أخرى، علماً أن موقف الحركة الصهيونية منها كان مشابهاً تماماً، والأمثلة على ذلك كثيرة ومن أهمها ما جرى لليهود في بولونيا، لكن التركيز على بلد واحد يهدف إلى إلقاء الضوء على الفلسفة المنهجية لدى الحركة الصهيونية في هذا المجال، آخذين في الحسبان حجم البحث. وإلا سيتحول إلى كتاب.‏

المرحلة الثانية ..‏

قبل الدخول في صلب البحث، لابد من توضيح قضية مهمة ومبدئية بالنسبة لي، وهي أنني لن أخوض في الجدل التاريخي الدائر منذ فترة ليست بالقصيرة، حول ما إذا كان هتلر قد قتل ستة ملايين يهودي أم لا. فجرائم هتلر ضد البشرية لا تحصى ويكفي أن حربه المجنونة، الحرب العالمية الثانية، أزهقت أربعين مليون نفس بشرية. وضحايا هتلر كانوا من كل الأعراق والأديان والأمم. وعداؤه الظاهري ضد اليهود لا يخفي إطلاقاً احتقاره العنصري للعرب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا نشك أن اليهود الذين قتلهم هتلر، وأولئك الذين هجروا من أوطانهم إلى فلسطين وغيرها من بلدان العالم، كانوا ضحايا تعاون مشترك وحلف غير مقدس بين النازية والصهيونية، وأصبحت الآن كل أوراقه مكشوفة منذ نشر كلاوديوس بوكلنه بحثه الشهير «العلاقات السرية بين النازية والصهيونية 1933 ـ 1941» وقد ترجمت هذا البحث عام 1977 وصدر في بيروت، وفي عام 1978 أصدر الأستاذ كلوب فارس كتابه المعروف عن العلاقات بين النازية والصهيونية، وقد صدر عن مركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت، وفي أواخر السبعينيات، تناول السيد محمود عباس الموضوع نفسه، في كتابه «الصهيونية» ومن ثم قدم لنا الأستاذ الدكتور محجوب عمر ترجمة رائعة لكتاب ليني برينر «الصهيونية في زمن الديكتاتورية ـ التاريخ الموثق لعلاقات الصهيونية بالفاشية والنازية» وهو صادر عن مؤسسة الأبحاث العربية في بيروت. ولذلك سيقتصر هذا الجزء من الدراسة على نقاط أربع:‏

أ ـ تعريف المحرقة THE HOLOCAUST.‏

ب ـ موقف الصهيونية من صعود النازية والفاشية.‏

ج ـ موقف الصهيونية من معسكرات الاعتقال ـ بعض الشهادات اليهودية.‏

د ـ شهادات وآراء يهودية حول ما يعرف بفرن الغاز.‏

أ ـ التعريف:‏

تعرف كلمة المحرقة في اللغات الأوروبية، خصوصاً الإنكليزية والفرنسية بالقدر الذي تسمح به معرفتي ب THE HOLOCAUST. ومن يطالع قاموس لاروس الشهير يقرأ ما يلي:‏

«المحرقة هي الحرق كلياً بالنار، التضحية، خصوصاً لدى اليهود، حينما تكون الضحية في وضع تلتهمها النار بشكل تام. النبي إبراهيم قدم ابنه للمحرقة، كقربان وكضحية»(36).‏

أما في اللغة الإنكليزية فيطالعك المعنى الثاني:‏

«الإحراق كلياً بالنار، التدمير بالنار، كلياً،.. قتل ملايين اليهود من قبل النازية خلال الثلاثينيات والأربعينيات»(37).‏

وبغض النظر عن القضايا الإشكالية التي تثيرها التعاريف المذكورة أعلاه، سواء تلك المتعلقة بالعادات الدينية اليهودية القديمة، أو تلك المتعلقة بالنبي إبراهيم، وما ورد بصدد تضحيته بابنه عن طريق الذبح لا الحرق، وأخيراً لماذا استغل تعبير المحرقة؟ أبسبب دلالاته الماضوية أم بسبب أشياء أخرى؟(38) بغض النظر عن كل ذلك، لابد من القول إنه من الصعب على باحث أن يعدد الطرق التي تروي فيها قصص الكارثة ـ المحرقة ـ كيف تزرع في أذهان اليهود وخصوصاً الناشئة منهم فبالإضافة إلى الكتب المدرسية، الأحاديث السياسية، الزيارات التي يفرض على الطلاب في كل المراحل القيام بها إلى ما يعرف بصرح الكارثة ـ يادفاشيم ـ الذي يحتوي بين جدرانه صوراً لمعسكرات الاعتقال، هناك الأفلام السينمائية(39) المسلسلات التلفازية، الحكايات التي تروى في السهرات المنزلية. وباختصار، جعلت «المحرقة، إحدى ركيزتين يقوم عليهما الدين الأمني الإسرائيلي في الوقت الراهن، فيما تعد المساداة، الركيزة الثانية، والمساداة، هي الاسم العبري لكلمة مسعدة، وهي بلدة يهودية قديمة على شاطئ البحر الميت يقال: إن سكانها اليهود انتحروا بشكل جماعي كي لا يستسلموا للرومان.‏

ومهما يكن، فقد اختلفت المصادر الصهيونية في تقدير عدد اليهود الذين قتلوا على أيدي النازيين. فقد جاء في كتاب اللورد راسل من ليفربول، المملكة المتحدة، «الصليب المعكوف والعاقبة الوخيمة» أن عددهم لا يقل عن خمسة ملايين(40). والرقم الذي أعدته اللجنة اليهودية المشتركة هو 5.012.000 (41). وتقول مصادر الوكالة اليهودية إن العدد هو ستة ملايين يهودي. (42) ويقدر الدكتور بيرتس فايغ، مندوب يهود نيويورك إلى المؤتمر اليهودي العالمي، أن عدد ضحايا النازية حوالي سبعة ملايين يهودي (43). وعندما رفعت قضية مطالبة إسرائيل بالتعويضات من ألمانيا الغربية، بلغ عدد المطالبين بتلك التعويضات نحو 3.375.000 (44). ومن جهته يقول المركز العالمي للوثائق اليهودية أن عددهم لا يزيد عن 1.485.292 يهودي، ووفق المركز فإن هذا الرقم يشمل كل اليهود الذين قتلوا في الأعمال الحربية خلال الحرب العالمية الثانية. وأخيراً يقول الصليب الأحمر أن عدد اليهود الذين ماتوا في المعتقلات النازية قليل جداً، لأن الرقم الإجمالي لضحايا الاضطهاد النازي المباشر من اليهود وغير اليهود في السجون والمعتقلات النازية، لا يزيد عن 300 ألف شخص(45).‏

وكما استفادت الحركة الصهيونية من صعود النازية لزيادة المهاجرين اليهود إلى فلسطين، واستفادت من الكارثة للحصول على التعويضات من ألمانيا الغربية في مطلع الستينيات، فقد استفادت أيضاً من هذه الكارثة، في إجبار المصارف السويسرية على دفع التعويضات عن الأموال التي كان ضحايا النازية يودعونها في المصارف الألمانية قبل تحويل تلك الأموال إلى المصارف السويسرية.‏

ب ـ كيف نظرت الصهيونية إلى النازية‏

عندما صعدت النازية في ألمانيا وتسلمت الحكم، رأت المنظمة الصهيونية العالمية «إن الوقت قد حان لاستغلال الحقد على اليهود لبناء الدولة اليهودية في فلسطين». حسب تعبير ميخائيل بار ـ زوهر، كاتب سيرة بن غوريون في كتابه بن غوريون «النبي المسلح». ويضيف بار ـ زوهر، بأن رغبة هتلر التقت مع المنظمة الصهيونية العالمية في إخراج يهود ألمانيا. وقد وضع حاييم «أور لوزروف»، رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية مشروعاً لإنشاء مصرف تصفية اليهود في ألمانيا ونقلهم إلى فلسطين المحتلة وذلك بالتعاون بين بريطانيا وألمانيا وإيطاليا(46). وهدف المشروع توجيه ثروات اليهود إلى فلسطين وبالتدريج. وقد سافر حاييم أولوزوروف إلى ألمانيا في 14/6/1933 للتفاوض مع النازيين لتنفيذ هذا المشروع.‏

وفي كانون الأول 1933 طلب حاييم وايزمان السماح له بالسفر إلى ألمانيا لتطوير الاتفاق الذي وقعه حاييم «أورلوزروف». وقد جاءت اتفاقية هاعفارا بين ألمانيا النازية والمنظمة الصهيونية العالمية لتنظيم التعاون المشترك بين الطرفين. وبموجب هذه الاتفاقية تم تدريب فصائل للحركة الصهيونية في ألمانيا وسمح لهم بأن يتجولوا بلباسهم الرسمي وأسلحتهم. وقد كشفت الوثائق أن ليفي أشكول قد عمل في المكتب الزراعي في برلين التابع للحركة الصهيونية فترة طويلة خلال الحرب العالمية الثانية. وقد كشفت أيضاً محاكمات ايخمان وكاستنر، والوثائق التي عرضتها لجنة الرأي العام السوفياتي لمناهضة الصهيونية الشيء الكثير من أسرار تعاون النازيين والصهاينة(47).‏

ومن جهة أخرى يقول الكاتب الأميركي المعروف ألفريد ليلينتال في كتابه «الجانب الآخر للميدالية THE OTHER SIDE OF THE MEDAL عن موقف قادة الحركة الصهيونية من صعود النازية إلى الحكم في ألمانيا» «كان الصهاينة في الأشهر الأولى من حياة النظام الهتلري يعتبرون هتلر الممثل الوحيد لليهود، وكانوا على اتصال وثيق بالسلطات الألمانية، وقد استغلوا وضعهم من أجل تشويه سمعة اليهود، أعداء الصهيونية، وكانت النتيجة توصل الطرفين إلى اتفاق بين الوكالة اليهودية وبين السلطات النازية بحيث تدعم السلطات النازية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، مقابل زيادة تعاون الوكالة اليهودية مع الغستابو (48).‏

وبما أننا لن نناقش المصادر الكثيرة التي رصدت التعاون بين النازية والصهيونية، سأكتفي بإيراد مؤشرات بسيطة جداً.‏

* في عام 1933، وصل إلى ألمانيا رئيس قسم الوكالة اليهودية أرلوزاروف، وأسس في برلين المكتب الفلسطيني لاستيطان فلسطين، وفي هذا المكتب كان يوجد قسم زراعي يرأسه ليفي أشكول، رئيس وزراء إسرائيل إبان عدوان حزيران (يونيو) 1967 (49).‏

* في عام 1933، نشرت صحيفة تيشرنوفو فيتشر اليغماني تسايتونغ، مقالاً بعنوان «مصير اليهود» برر فيه كاتبه، ما تفريد رايفير، عضو الوكالة اليهودية، ونائب صهيوني سابق في برلمان رومانيا سياسة هتلر، وعدها شيئاً طبيعياً كان اليهود سببه. وقال الكاتب. «عليهم أن يتحلوا بالصبر، ويعتادوا على فكرة أن الجميع لن يستطيعوا النجاة، علينا أن نفهم مجرى التاريخ، حتى ولو كان هذا الطريق مضرجاً بالدم اليهودي. إن المختارين وحدهم يستطيعون النجاة، والمختارون هم من يؤمنون بالصهيونية»(50).‏

وسيكشف التاريخ لاحقاً أن الصهاينة سلموا الضعفاء من اليهود، الشيوخ من النساء، والرجال، والمرضى، والفقراء لمعسكرات الاعتقال النازية، مقابل سماح سلطات هتلر بتهجير الشباب اليهود إلى فلسطين.‏

* في عام 1937 أعلن البارون فون ميلديشتين الموافقة على تأسيس معسكرات إعادة التدريب والتأهيل. وكانت هذه المعسكرات في الواقع تستخدم لتدريب العناصر الصهيونية على استخدام الأسلحة، ويسمح لأفرادها التجول بأسلحتهم في كل أرجاء ألمانيا في الفترة التي فرضت السلطات الألمانية النازية على اليهود وضع إشارات خاصة على ملابسهم(51).‏

* فيما بين عامي 1937 ـ 1938 تبلورت خطة النازية لتهجير 600 ألف يهودي إلى فلسطين بالتعاون والتواطؤ مع كل من الحركة الصهيونية وبريطانيا، لأنها السلطة الانتدابية. وقد وقعت هذه الخطة بين رئيس البنك الألماني شاخت ومدير البنك الإنكليزي مونتغو نورمان. وفي 5/2/1939 شكلت هيئة مركزية للإشراف على عملية التهجير اليهودية، وبدءاً من 10/7/1939، بدأت السلطات النازية بإطلاق سراح الشبان اليهود من معسكرات الاعتقال من داخو بوفينغالد، ولكن جميع من أطلق سراحهم أمروا بمغادرة الرايخ الثالث خلال أسابيع تاركين أملاكهم وراءهم، ولم يسمح لهم بحمل أية أمتعة أو مبالغ نقدية كبيرة أو مجوهرات. وبعد ذلك أصبح بإمكان المهاجرين اليهود حمل قيمة ربع أملاكهم(52).‏

وفي هذه الأثناء، كانت الحاخامية اليهودية تكيل المدائح للنازيين. فقد أعلن الحاخام الدكتور واينبرغ، حاخام فيينا أن اليهود المتدينين يعرفون أن هتلر يستحق الشكر العظيم لأنه يناضل ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي. وفي لندن، كانت الحاخامية اليهودية في بريطانيا ترفض مهاجمة هتلر، بل إن الوكالة اليهودية ذاتها أصدرت أول بيان لها عن المذابح ضد اليهود في ألمانيا في كانون الأول 1942، أي بعد سنوات من بدء ارتكاب المجازر ضدهم، وفي كثير من الحالات كانت الوكالة اليهودية والصحف الصهيونية في فلسطين ولندن تقول إن الأنباء الواردة عن المجزرة مختلقة وإنها دعاية سوفييتية (53).‏

ومن جهة أخرى كان الإرهابي فلاديمير زئيف جابوتنسكي الأب الروحي لحركة حيروت الحالية يقيم أوثق العلاقات مع الفاشية الإيطالية، وتحول جابوتنسكي إلى داعية لموسوليني في العالم بأسره. وطالب جابوتنسكي بوضع فلسطين تحت الانتداب الإيطالي، وأيد الغزو الإيطالي لأثيوبيا مدعياً أن الاستعمار الأوروبي لا يستغل شعوب العالم، بل يساعدها(54). وعندما منعت سلطات الانتداب البريطاني جابوتنسكي من القدوم إلى فلسطين في آب 1933، شكل أتباع جابوتنسكي في فلسطين الذين كانوا يصدرون صحيفة (Chazit Ha, am) اتحاد الإرهابيين. وبدأت الصحيفة المذكورة تنشر زاوية يومية تحت اسم مذكرات فاشي. أما موسوليني فقد أنشأ في عام 1934 فصيلاً لحركة بيتار التي يتزعمها جابوتنسكي، وقد تدرب الفصيل الصهيوني في المدرسة العسكرية الفاشية، وقد ضم 134 طالباً، وهم يرتدون قمصانهم البنية، وفي عام 1936 أقامت الوحدات العسكرية الصهيونية التابعة لجابوتنسكي استعراضاً عسكرياً في روما حضره واحد من أكبر قادة موسوليني العسكريين اسمه دوس الثاني. وفي عام 1925 أعلن موسوليني أمام حاخام روما ديفيد براتور: «حتى تنجح الصهيونية، تحتاجون إلى دولة يهودية وعلم يهودي ولغة يهودية، والشخص الذي يفهم هذا حقاً هو الفاشي جابوتنسكي(55)».‏

ج ـ شهادات من معسكرات الاعتقال النازية‏

سأورد فيما يلي شهادتين للبروفيسور برونو بتلهايمBruno Bettelheim، من مواليد فيينا 1903 وهو يهودي ومن أبرز علماء النفس خلال عقد السبعينيات أمضى سنوات عدة في معسكرات الاعتقال في داخو «Dachau» ومعسكر بوفينغالد، Buchen wald، وفي عام 1939 تمكنت أسرته من دفع فدية له وهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية.‏

الشهادة الأولى وتتحدث كيف ساعدت النازية الصهيونية(56).‏

«قبل الحرب، اعتقل عدد لا بأس به من اليهود ووضعوا في السجون، في معسكرات الاعتقال، وجرى هذا لإرهاب اليهود كل اليهود، لكي يهاجروا مباشرة تاركين وراءهم كل أملاكهم. وبالشكل العملي نفذ ذلك من كان في وضع نفسي يسمح له أن يتأمل فكرة ترك كل أملاكه ويبدأ حياة جديدة في بلد أجنبي، وكذلك من كانت عنده القوة لتنظيم مثل هذه الحركة، أو أن يطلب من الآخرين تنظيمها لمصلحته، رغم أنه في معظم الأحيان، كانت البلدان التي سوف تقبل استقبالهم ليست هي التي اختاروها أو كانوا يريدونها. وكان من السهل تنظيم تهجير اليهود إلى فلسطين، وفي معظم الأحيان رغماً عنهم».‏

والشهادة الثانية تتحدث عن نوعية الأشخاص الذين كانت السلطات الألمانية تطلق سراحهم من المعتقلات النازية(57).‏

«حتى وقت اندلاع الحرب تقريباً، مرة في الأسبوع، وفي بعض الأحيان في كل أيام الأسبوع، كان بعض السجناء اليهود يطلق سراحهم. إذا قدموا كل أملاكهم، إضافة إلى مبالغ كبيرة كان يدفعها أقاربهم للسلطات النازية، وإضافة إلى ذلك تعهدوا بمغادرة الأراضي الألمانية فوراً. وهذه الشروط لن تنطبق علي، وقد استمرت شهور عدة قبل أن يطلق سراحي، وبالطريقة ذاتها، وخلال هذه السنة أطلق سراح الكثير من السجناء اليهود، نسبياً، وكان ثمة من يقول داخل السجن إنه توجد طريقتان للخروج من معسكر الاعتقال، الأولى وقدما السجين إلى الأمام، أي وهو ميت، والثانية أن يكون يهودياً»(58).‏

لن أعلق على هاتين الشهادتين، ففهيما من الوضوح والدلالة ما يغني عن كل تعليق، لكن الكاتب كشاهد عيان يقول إنه من أصل 30 ألف سجين في المعسكر كان يوجد 500 يهودي.‏

د. شهادات بشأن أفران الغاز: سأورد فيما يلي ملخصاً لشهادة يغال لوسين منتج مسلسل «عمود النار» الذي قام التلفاز الإسرائيلي ببثه في النصف الأول من عام 1981 وعلى مدار 19 حلقة تحدثت عن تطور المشروع الصهيوني في فلسطين.‏

«عندما قمت ببحث خلفية الكارثة في ألمانيا تعلمت أشياء كثيرة، وقررت توجيه كل جهدي للعثور على أفلام سينمائية عن الكارثة من الأرشيف التابع لمؤسسة معسكرات الاعتقال في كيبوتس لوهيم هيغاؤوت» لأن تلك المؤسسة قامت ببحث شامل للموضوع وأنتجت فيلم «الضربة الحادية والثمانين» بالتعاون مع الشاعر حاييم غوري، وكانت المؤسسة على استعداد لتزويدنا بالمواد السينمائية المتوافرة لديها.. وبعد أن فرغنا من العمل، اطلع عليه البروفيسور باور وقال: لا تلمسوا هذا الفيلم ولا تعرضوه أبداً. فسألناه: لماذا؟ فقال لأن جميع الباحثين لم يعثروا حتى الآن على أي فيلم وثائقي للكارثة.. لقد وافقت الدكتور باور على رأيه، ولكنني أبلغته أنني سأحاول إيجاد براهين تؤكد وجود غرف غاز، وبعد ذلك يئست من إمكانية العثور على مثل هذه البراهين، لقد كنت شخصياً في أوشفيتس، ولم أشاهد هناك غرف غاز.‏

لقد أرسلنا الدكتور باور إلى الدكتور كولكه المسؤول عن مؤسسة ياد فاشيم، وقمنا بالتفتيش عن الصور التي نسعى للحصول عليها، ولكننا لم نعثر على شيء (59).‏

الخاتمة...‏

رغم أحاديث الصهيونية عن النازية والكارثة التي ألحقتها باليهود، هل يعقل أن تجد من بين الصهاينة من يمتدح النازية؟! للوهلة الأولى الجواب هو بالنفي. لكن الوقائع تقول غير ذلك. في كتابه الصادر عام 1972 بعنوان «كل شيء لألمانيا وطنية اليهود، الألمان والاشتراكية القومية. يقول البروفيسور شيبس إن الذنب هو ذنب اليهود أنفسهم، والكثيرون منهم كانوا أنصاراً بارزين للحركة الشيوعية والاشتراكية»(60).‏

وثمة كاتب صهيوني آخر، هو يوري هراري، يكتب في صحيفة يديعوت أحرونوت، في 9/2/1968 بنوع من الشماتة من اليهود الذين قتلتهم النازية ويحملهم مسؤولية الكارثة:‏

«عندما نسمع بمذابح تدبر ضد اليهود نتساءل أين كانوا؟ لماذا لم يهاجروا؟، ولكن في أعماقنا ينبعث شعور شرير بالفرح «إنهم يستحقون ذلك. لقد حذرناهم» (61).‏

وأخيراً لنقرأ ما يقوله بن غوريون:‏

«لو أنني أعرف أنه من الممكن إنقاذ كل الأطفال اليهود في ألمانيا بإحضارهم إلى إنكلترا، أو إنقاذ نصفهم فقط بنقلهم إلى أرض إسرائيل، لكنت اخترت البديل الثاني فقط»(62).‏

بعد هذا الذي قلناه، هل يمكن التمييز بين عداوة الصهيونية لليهود وعداوة النازية لهم؟‏

المرحلة الثالثة..‏

بعد قيام إسرائيل عام 1948. مزجت الصهيونية وقادة إسرائيل بين العداء للسامية، بالمفهوم الصهيوني المعروف، وعقدة الهلوكوست «المحرقة» وأضافت إليهما عنصراً جديداً هو عقدة المساداة أو الإبادة الجماعية وصنعت من هذا المزيج ما يعرف بالأدبيات الإسرائيلية بالدين الأمني، الذي يصبح قيمة بحد ذاته، وفوق كل القيم الأخرى، وبموجبه تتم عسكرة المجتمع والأدب والتعليم والاقتصاد والقوى البشرية، وتصبح الحرب بالنسبة للإنسان في إسرائيل هي شيء من القضاء والقدر، لا علاقة لقيادته بها. ولا يمكن تفاديها، وهكذا يصبح الجيش الإسرائيلي مقدساً وجنرالاته يتحولون إلى حراس المعبد وكهنته، إليهم تقدم التبريكات والصلوات(63). أما المؤسسة الدينية، بشقيها الحاخامية العامة، والحاخامية العسكرية فينحصر موقفها في دعم المؤسسة العسكرية وتقديم التغطية الدينية، على شكل فتاوي، لتسويغ كل أعمال القتل التي ترتكب ضد العرب.‏

أهم مرتكزات الدين الأمني‏

1ـ تمجيد الحرب، بحد ذاتها، بغض النظر عن أهدافها ومسوغاتها.‏

يقول الكاتب الإسرائيلي دان شيفتاي. في صحيفة هآرتس في 9/10/1973: «إن المقصود بالحرب هو إعطاء التنفس والتخفيف من حدة المشاعر بالخيبة والعجز.. إن مجرد شن حرب مهما كانت نتائجها هو عمل بطولي يطهر الشعب من عاره»(64).‏

2ـ تحويل الحرب إلى الظاهرة السائدة، والوحيدة في حياة المجتمع في إسرائيل، التي على أساسها يتم تقسيم فترات التاريخ وأحداثه. لنستمع إلى ما تقوله البروفيسورة عاميا ليبليخ أستاذ علم النفس الإسرائيلية حول هذه الظاهرة الفريدة التي لا مثيل لها في العالم:‏

«الحرب في إسرائيل جزء من الماضي والحاضر والمستقبل. إن الأسئلة المعتادة في حياتنا هي: ما هو الوقت المتبقي حتى الحرب القادمة»؟.. إن التعايش مع الحرب أي الحياة حتى خط النهاية.. كان ولا يزال جزءاً من حياتنا.. لقد أصبحت الحرب نتيجة لذلك بمنزلة المحور الذي تتحرك إسرائيل وفقاً له في كل المجالات، ويتم تقسيم التاريخ الأدبي والفكري والاقتصادي نسبة للحروب.‏

3ـ التقليل من أهمية السلام مع العرب، إن لم يكن السخرية منه: وهذا لا يمنع قادة إسرائيل والصهيونية من الكلام المعسول عن السلام سواء للخداع أو للتغطية على استعدادات لاعتداءات جديدة. إليكم ما يقوله بن غورويون: «إن أسوأ مقلب يمكن أن يفاجئنا به العرب هو أن يوافقوا على عقد الصلح»(65).‏

ومن يقرأ كتاب موشي ماعوز «السلام مع سورية ونهاية الصراع العربي ـ الإسرائيلي يدرك لماذا رفضت إسرائيل توقيع اتفاقيات سلام مع أكثر من بلد عربي. في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات.‏

ومن يعرف بن غوريون وتلامذته من قادة إسرائيل يدرك أن ثمة عوامل عديدة، تدفع بن غوريون لإصدار هذا الحكم ومنها:‏

أ ـ رفض بن غوريون تحول إسرائيل إلى دولة شرق أوسطية، واحتقار بن غوريون العرب، والثقافة العربية الشرق أوسطية التي يحملها اليهود القادمون من البلدان العربية والشرق أوسطية.‏

ب ـ حرص إسرائيل على الحفاظ على دور إسرائيل في المنطقة، وإبقائها دائماً على استعداد وفي حالة جاهزية تامة للقيام بالحروب بالإنابة، أو ما يعرف بالحروب ضد العرب بالتعاقد مع دول أخرى، تكون تكاليف هذه الحرب وأرباحها مدفوعة سلفاً.‏

وفي هذه الأيام باتت وثائق حربي 1956 و1967 مكشوفة تماماً للقاصي والداني، وبسهولة يمكن لأي متتبع أو دارس استخلاص العبر، بل ورؤية المساومات بين إسرائيل ومن تعاقدت معهم لشن هذه الحروب. ومن يدرس زيارة مناحيم بيغن إلى الولايات المتحدة في حزيران (يونيو) 1982، والمفاوضات التي أجراها مع الإدارة الأميركية في عهد الرئيس رونالد ريغان، وخصوصاً وزير خارجيته الكسندر هيغ، وردود بيغن على بعض أعضاء الكونغرس الأميركي الذين جاهروا بانتقاد بيغن، يكتشف بسرعة وبسهولة بالغة الطبيعة التعاقدية لهذه الحرب، بل إن بيغن جاهر بذلك علناً(66).‏

4ـ يستدل من آراء المستوى السياسي والعسكري في إسرائيل، أن نظرتهم إلى الدول العربية وعلاقاتهم معها، باستثناء بعض العناصر النفعية الثانوية، لا تتغير سواء وقعت هذه الدول العربية اتفاقات سلام مع إسرائيل أم لم توقع. وما كان يقوله المحللون العسكريون والباحثون الاستراتيجيون عن نظرتهم إلى المنطقة، بعد توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد، يكشف بوضوح أن إسرائيل تعد مصر، بعد كامب ديفيد، والأردن، بعد اتفاق وادي عربة، عدوين محتملين، لأن متغيرات إقليمية قد تغريهما وتشتركان بالحرب ضد إسرائيل (67).‏

5ـ إن الكيفية التي ترسم بها أية دولة استراتيجيتها، وتحدد بموجبها مكونات أمنها القومي، تكشف عن رؤيتها إلى نفسها ضمن النسيج الإقليمي والدولي. وبالنسبة لإسرائيل، فالتهديدات الأمنية، لم تعد محصورة بالحرب مع دول الطوق العربية، أو دول الجبهة الشرقية، كما كان الاعتقاد يشمل دولاً مثل إيران، بعد ثورة شباط 1979، وحتى باكستان، بعد إنتاج هذه الدولة لقنبلتها النووية.‏

الخلاصة ..‏

إن الهدف الأساسي للدين الأمني في إسرائيل خلق الإنسان ذي الذهنية القابلة للتسليم، وبدون نقاش أو استعداد لإعادة النظر، بكل الأساطير المؤسسة لإسرائيل والحركة الصهيونية، وأن يقبل ذلك الإنسان، وبصورة فورية، وكأن لا دور له فيه، أن الخيار الوحيد له هو الحرب، لأجل الحرب، وتقديس الحرب، لأن لا سبيل لإسرائيل للعيش دونها. أليس هذا ما نفهمه مما يقوله موشي دايان. «إن إسرائيل مرتكزة على السيف. هذا هو قدر جيلنا.. خيار حياتنا.. أن نكون مستعدين، ومسلحين وغلظاء.. وإلا سوف يسقط السيف من قبضتنا. وحينئذ تنتزع حياتنا»(68).‏



((‏



( هوامش البحث:‏

1ـ قرار صادر عن المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي، راكح، 1972.‏

2ـ الحياة 26/3/2001.‏

3- Encyclopedia Britannica File: //C/ Program %20 Files, Britannica, 2001, Cache, info.‏

4- Grand Larousse Librairie Larousse, Paris 1962. Vo1. 8. P. 983‏

مأخوذة عن د. الكيالي، إحسان سامي، العنصرية الصهيونية في الدستور والقوانين الإسرائيلية الأساسية، المؤتمر الثالث عشر لاتحاد المحامين العرب، تونس، تشرين الثاني 1976، ص17 ـ 18.‏

5ـ المصدر السابق، ص19.‏

6ـ بلدنا، صحيفة اليهود الروس الناطقة باللغة الروسية، 3/12/1998.‏

7ـ الأسبوع، مجلة اليهود الروس الناطقة باللغة الروسية، 20/11/1998.‏

8- AL - Ahram Weekly, 15 - 2 - 2001‏

9ـ هآرتس 13/4/2001، مقال بقلم يوئيل ماركوس‏

10ـ الحياة 6/1/2001 مقال بقلم سائدة حمد.‏

11- Revisioniom, From Jabotinsky to Begin, Palestine Studies, winter 1983. p. 79‏

12- The Oxford Concise Dictionary of Politics. Oxford Press. 1996.‏

13ـ لمزيد من التفاصيل، راجع الموعد، حمد سعيد، الصهيونية تعليم الحقد قراءة في تشكيل العقد الصهيوني، دار الملتقى، قبرص، 1993، ص39.‏

14ـ الصافي، عبد الرزاق، القاموس ـ السياسي، دار الفارابي، لبنان، بيروت.‏

15- Encyclopedia Britannica. vol.9. pp. 194.‏

16- Fascist Components in the Political Thought of Vladimir. Jabotinsky. Arab Swdies Quartely. Vol.6.p. 304.‏

17- Joseph B. Schectmen, “Rebel And Statesman” The V. Jabotinsky Story. New york. 1956.pp.23 - 27.‏

18- Leon Uris. Exodus. Bantam Books. New york Toronto. London.p..‏

19ـ الموعد، حمد سعيد العنف في الفلسفة الصهيونية، مجلة الأراض للدراسات الفلسطينية، دمشق 1987.‏

20- Meir. G. My Life. Tel. Aviv. 1975.p..‏

21ـ بيبرو، جان الفلسطينيون، الغرب، دينية اللسان، الشعب الفلسطيني، مقالات بقلم كتاب يهود، مصدر سابق ص118.‏

22ـ الموسوعة الفلسطينية الجزء الرابع ص8ـ 9ـ 10ـ 11.‏

23- Shulamit Volkov. German Anti - Semitism and the National Thought the Jerusalem Quarterly. Vol. 15. 1980.‏

24ـ المصدر السابق، ص57.‏

25ـ المصدر نفسه، ص57.‏

26ـ المصدر نفسه، ص58.‏

27ـ المصدر نفسه، ص58.‏

28ـ مأخوذة عن الفكرة الصهيونية، النصوص الأساسية، بإشراف د. أنيس صايغ، ترجمة لطفي العابد وموسى عنز، تعريف د أسعد رزوق، مراجعة هلدا شعبان صايغ وإبراهيم العابد، م.ت.ف، مركز الأبحاث بيروت، 1970، ص13.‏

29ـ المصدر السابق ص47.‏

30ـ المصدر السابق ص47.32ـ يوميات هرتزل، إعداد د. أنيس صايغ، ترجمة هيلدا شعبان صايغ ـ مركز الأبحاث، بيروت 1973، ص319.‏

31ـ المصدر السابق.‏

32ـ يوميات هرتزل ـ إعداد د. أنيس صايغ، ترجمة هيلدا شعبان صايغ ـ مركز الأبحاث، بيروت 1973، ص319.‏

33ـ انظر الماركسية والدولة اليهودية، بقلم أ. ديمتري، موسكو، دار التقدم. 1967، ج1 ص94.‏

34ـ المصدر السابق، ص225ـ 227.‏

35ـ المصدر السابق، ص427.‏

36- Le Grand Le Rousse.‏

37- Longman Dictionary. 1998.‏

38ـ لمعرفة المزيد من عادات اليهود القديمة من المفيد جداً مراجعة كتاب Max Weber. Ancient Judaism الصادر عام 1902، وهو من تلاميذ هيغل.‏

39ـ حول الطقوس التي تجري كل سنة في المدارس والمعاهد في إسرائيل إحياء لذكرى ما يعرف بالكارثة. راجع المصدر المذكور أعلاه.‏

40ـ نشر كتاب اللورد راسل في لندن عام 1954. مأخوذة عن مجلة الأرض 21/9/1983. ص20.‏

41ـ المصدر السابق نفسه‏

42ـ المصدر السابق.‏

43ـ المصدر السابق، ص20.‏

44ـ رعاية الأشقاء، بقلم فيليب فردمان، نيويورك، 1957ـ ص13.‏

45ـ مجلة الأرض، 21/9/1982 ص21‏

46- Bar Zohar, Michael, Ben Gurioun‏

The Armed Prophet, Eaglewood, Cliff, 1962, P.46‏

47- The Secret Relatoins Between Zionism and Nazi Germany, Palestine Studies, April, 1976. P 54 – 83‏

48- Alfred lillenthal, The other side of the Medal, p. 108.‏

49ـ انظر ا.م. برودسكي، الصهيونية في خدمة الرجعية، دار التقدم، موسكو.‏

50ـ المصدر السابق، ص 103ـ 104‏

51ـ المصدر السابق‏

52ـ المصدر السابق‏

53ـ لمزيد من التفاصيل حول التعاون بين النازية والصهيونية في زمن الديكتاتورية، ترجمة د. محجوب عمر، مؤسسة الدراسات والأبحاث العربية، بيروت 1985.‏

54- Jabotinsky, Vladimir Zeev, A self – Portrait, Jewish Frontiers, January, 1935, p 16‏

55- Revisionism, From Jabotinsky to studies, winter, 1983. P.79.‏

56- Bruno Bettelheim, Survivng The Holocaust, Flemingo, Fontana Paperbacks. London. 1986. P. 27‏

57- Bruns Bettle Geim, Ibid, P.27‏

58- bid: P.56.‏

59ـ انظر أسطورة عمود النار، ترجمة دار الجليل إشراف الدكتور غازي السعدي، عمان، والتفاصيل كاملة موجودة في كتابنا المذكور أعلاه.‏

60ـ برودسكي، الصهيونية في خدمة الرجعية، مصدر سابق.‏

61ـ يديعوت أحرونوت 9/2/1968.‏

62ـ مأخوذة عن ليني برينر، مصدر سابق.‏

63ـ لمزيد من التفاصيل راجع‏

Asher, Arion, Ilan Talmud and Tamer Herman, National Security and public Opinion, Israel, the jaffee Centre for Strategie Studies. No.9 Tel. Aviv University. 1988. P.49.‏

64ـ هآرتس 9/10/1973.‏

65ـ مصدر سبق ذكره.‏

66ـ لمزيد من المعلومات راجع «الدروس التي استفادها العدو الصهيوني من تجربته في لبنان» الموعد، حمد سعيد ـ مجلة الأرض 1982.‏

67ـ لمزيد من التفاصيل راجع:‏

John Edwin Mroz, Beyond Security, Private Perceptions Among Arabs and Israelis, The Intermational Peace Academy, fergamon Press, 1980, PP 32 –33 – 34.‏

68ـ مأخوذة عن كتابنا السابق.‏




mailto:aru@net.sy

| الصفحة الرئيسة | | دليل الاعضاء | | جريدة الاسبوع الادبي | | صفحة الكتب | | صفحة الدوريات-مجلات | | فهرس الكتب | | اصدارات جديدة | | معلومات عن الاتحاد |


سورية - دمشق - أتوستراد المزة - مقابل حديقة الطلائع - هاتف: 6117240 - فاكس: 6117244

الأربعاء، 27 مايو 2009

النازية والصهيونية

كانت الفكرة الرئيسة المشتركة بين الحركة الصهيونية وتعاليم العنصريين هي أن العالم يشتمل على أمم مختلفة في حالة نزاع دائم, وأن الأمم الراقية يجب أن تسيطر على مصائر الأمم الأخرى وتهيمن على ثرواتها وبلدانها. وقد التقت الصهيونية, جوهرها <<عقيدة الشعب المختار>>, بالنازية , وجوهرها <<عقيدة الشعب الألماني الآري المتفوق>>, كما التقت الصهيونية, فيما بعد, بنزعتها الأصلية في الاستعمار والتوسع والهيمنة, بالإمبريالية, بنزعتها الأصلية في السيطرة وتسخير الشعوب لأغراضها (ر: العنصرية والصهيونية).والتقت النازية والصهيونية في مجال التنفيذ العملي انطلاقا من السياسة الأولى القائمة على ضرورة التخلص قدر المستطاع من الفئات غير الآرية في ألمانيا, وهدف الثانية في استعمار فلسطين وسوق أكبر عدد من اليهود إليها.رأت الحركة الصهيونية في اليهود الألمان مجالا رحبا لنشاطاتها فنقلت مركز عملها بعد موت هرتزل من فيينا إلى كولن فبرلين. ويعود نشوء أول حركة يهودية في ألمانيا تدعو إلى الاستيطان في فلسطين إلى عام 1864. وقد تم الإعلان عن تأسيس المنظمة الصهيونية في ألمانيا كجزء من الحركة الصهيونية العالمية في 31/10/1897 في فرانكفورت بزعامة ماكس بودنهايمر, ثم أسس هنريخ لو المنظمة الصهيونية في برلين. وفيها صدرت عام 1902 نشرة بعنوان <<الأنباء اليهودية>> استمرت حتى عام 1938. ولكن عدد أعضاء المنظمة الصهيونية الألمانية لم يرتفع حتى عام 1912 إلى أكثر من 8,400 عضو معظمهم من أبناء الطبقة الوسطى. وطالب المؤتمر الثالث عشر للمنظمة الصهيونية في ألمانيا بالهجرة إلى فلسطين والامتناع <<عن الدعوة لنيل الحقوق المدنية في ألمانيا, على أساس أن الإقامة في ألمانيا مؤقتة>>في أثناء الحرب العالمية الأولى أصبح للحركة الصهيونية مكتب في برلين بالإضافة إلى مكتبها الرئيس في كوبنهاغن المحايدة ومكتبها الآخر في بريطانيا. وتلقي قنصل ألمانيا في فلسطين عام 1915 تعليمات تنص على <<ضرورة تأمين الحماية التامة للمصالح اليهودية في فلسطين>>. وقبل نهاية الحرب أحدثت الحكومة الألمانية دائرة خاصة للشؤون اليهودية في وزارة الخارجية الألمانية وتطوع بعض اليهود من أوربا في وزارة الخارجية الألمانية وتطوع بعض اليهود من أوربا الشرقية في الجيش الألماني.ومن برلين قاد فلاديمير جابوتنسكي في عام 1923 ما أطلق عليه اسم <<الحركة التصحيحية>> (ر: المنظمة الصهيونية الجديدة) وتم تأسيس كثير من النوادي والجمعيات ودور النشر. ورغم ذلك فقد <<بقيت الدعاية الصهيونية محصورة في إطار المهاجرين من روسيا القيصرية.. كما بقيت الحركة الصهيونية معزولة عن جماهير اليهود الألمان, ولم تخرج الحركة الصهيونية في ألمانيا من أزمتها إلا في العهد النازي>>.وكان أركان النازية في مقدمة المهتمين بإنجاح المشروع الصهيوني للاستيطان في فلسطين. فقد كتب منظر النازية الأكبر الفريد روزنبرغ عام 1927 في كتابه <<محاكمة اليهود في العصور المتغيرة>>:<< يجب تقديم العون الفعال للصهيونية حتى يمكن نقل أكبر عدد ممكن من اليهود الألمان إلى فلسطين سنويا>>.وفي 15/5/1935 قالت صحيفة <<داس ستكوازكوريس>> التي تنطق باسم جهاز المخابرات الألماني: <<ربما لن يطول الزمن حتى تستقبل فلسطين أبناءها الذين افتقدتهم منذ ألف سنة, وتقف معهم رغبتنا ورغبة الدول الحسنة>>.وبوصول الحزب النازي بقيادة هتلر إلى السلطة في ألمانيا (كانون الثاني 1933) بدأ تطبيق سياسة مضايقة اليهود المعارضين للصهيونية من الذين يعتبرون ألمانيا وطنهم, فوافق المجلس الوزراء الألماني في نيسان 1933 على قانون الخدمة المدنية الذي منع جميع اللاآريين, باستثناء الذين قاتلوا في الجبهة أو خسروا أبا أو ابنا في الحرب العالمية الأولى, من شغل أي مركز في الخدمة المدنية الاتحادية أو التابعة للولاية أو البلدية, كما منع اليهود المقبولين في الكليات والجامعات من أن يكونوا أعضاء في التنظيمات الطلابية, والمحررين السياسيين اليهود من حضور المؤتمرات الصحفية الحكومية. وتم كذلك إبعاد جميع القضاة والمحامين اليهود عن العمل في القضاء. وفي بروسيا طلب البرلمان من وزير التربية صرف جميع المعلمين اليهود وتحديد عدد الطلبة اليهود في الجامعات والمدارس فلا تزيد نسبتهم على واحد في المائة. وفي ميونيخ أعلن مراقب المدارس عدم السماح لأي من أولاد اليهود بدخول المدارس المسيحية ولأطباء المدارس اليهودية بمعالجة أولاد المسيحيين. وكان الهدف من هذه الإجراءات كما علق أحد الخبراء القانونيين اليهود البارزين <<خروج عدد كبير من اليهود واللاآريين والليبراليين من ألمانيا>>.رأت الصهيونية في صعود الحزب النازي واستلامه السلطة فرصة ذهبية لإجبار اليهود على الرحيل إلى فلسطين وتحقيق فكرتها القائلة بأن اليهود يجب ألا يكونوا جزءا من مجتمع غير يهودي. ومنذ البداية أجرت الحركة الصهيونية اتصالات كثيرة بقادة الحركة النازية على يد بعض زعمائها من أمثال بولكيس وتوسيغ. وقد عبر عنها الصحفي الألماني هانس هنيه بقوله: <<إن الصهيونيين لم يعتبروا توطيد أقدام في ألمانيا كارثة قومية, بل اعتبروه إمكانية تاريخية فريدة لتحقيق المقاصد الصهيونية>>. ووصف أدولف أيخمان أحد قادة النازية نفسه بأنه موالِ للصهيونية, وأقام علاقات ودية مع الصهيونيين.ساعد القادة النازيون الحركة الصهيونية في مساعيها لتوجيه الهجرة اليهودية إلى فلسطين, وشكل في برلين <<مكتب فلسطين لتنظيم هجرة اليهود الألمان>>, ولم يعد ممثلو الحركة الصهيونية <<يأتون إلى ألمانيا النازية لإنقاذ اليهود الألمان بل لاختيار الرجال والنساء والشباب والمستعدين للذهاب إلى فلسطين لكي يصبحوا روادا ويناضلوا ويحاربوا>>. وحظيت سياسة تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين بتأييد هتلر نفسه, وأبدت الحركة الصهيونية استعداها <<لتحرير ألمانيا من يهودها>>.اتخذت العلاقة بين الحركة الصهيونية والنازية شكلها الرسمي بتوقيع الرايخ الألماني والوكالة اليهودية* اتفاقية <<هعفراه>> ( وتعني بالعبرية النقل أو التحويل) التي سمحت بنقل رؤوس أموال اليهود الألمان المهاجرين إلى فلسطين مقابل إلغاء الصهيونية للحصار الاقتصادي الذي فرضه اليهود الألمان على البضائع الألمانية بسبب القوانين التي فرضتها ألمانيا النازية على اليهود الألمان. ومنحت هذه الاتفاقية الرأسمالي اليهودي الألماني المهاجر إلى فلسطين حق إجراء اتصال بمصدر ألماني لنقل السلع من ألمانيا إلى فلسطين, على أن تدفع للمصدر الألماني, أموال مسحوبة من حساب مجمد لليهود المهاجرين ويتلقى المهاجر أمواله المحولة بهذه الطريقة من الوكالة اليهودية لدى وصوله إلى فلسطين. وبعد وقت قصير ألحقت باتفاقية <<هعفراه>> اتفاقية تتم بموجبها مقايضة البرتقال الفلسطيني بالخشب وورق اللف والسيارات والمضخات وآلات الزراعة الألمانية وغيرها.لقد منحت اتفاقية <<هعفراه>> الحركة الصهيونية سلاحا قويا لأنها سمحت بهجرة اليهود الألمان وحدهم إلى فلسطين وتعويضهم. وأما سائر اليهود فقد كانت أموالهم تصادر بدون أي تعويض. وكان منظمو الهجرة الصهيونية يناليون, بالتعاون مع النازيين, حصتهم من الفوائد المادية على حساب الأفراد من اليهود.وقد أيد المؤتمر الصهيوني* الثامن عشر الذي عقد في براغ (آب 1933) سياسة الحركة الصهيونية ورفض تبني اقتراح باشتراك المنظمة الصهيونية في الجهود لمقاطعة ألمانيا. وكان الاتحاد الصهيوني لألمانيا قد طمأن أحد كبار القادة النازيين بأن النداءات التي تدعو إلى مقاطعة ألمانيا ليست صهيونية. وقرر المؤتمر الصهيوني التاسع عشر الذي عقد في لوسيرن (أيلول 1935) أن يضع نظام <<هعفراه>> كله تحت الإشراف المباشر للجنة التنفيذية الصهيونية التي نقلت إليها الأسهم التي كان يملكها المصرف البريطاني ـ الفلسطيني. بلغت عمليات النقل التي حققتها <<هعفراه>> عام 1933 مبلغ 1,254,956 ماركا, ووصلت في عام 1937 إلى 31,407,501 مارك. وجاءت هذه الزيادة بعد مصادقة المؤتمر الصهيوني التاسع عشر على قوانين نورنبرغ (1935) التي أصدرتها السلطات النازية وقسمت مواطنيه الرايخ إلى درجتين:<<البرانجسبرغر>> الذي يجب أن يكون ذا دم ألماني نقي, و<<الستاتسانهوزيغر>> الذي هو من رعايا الدولة ولكنه ليس مواطنا, وبعد المصادقة كذلك على قانون <<من أجل حماية الدم والشرف الألمانيين>> الذي أضاف إلى قوانين نورنبرع أن الاثنين يجب ألا يتعايشا معا في إطار الزواج ولا خارجه, وصنف اليهود الألمان في الدرجة الثانية. وقد نالت الحركة الصهيونية المزيد من المكاسب بعد صدور هذه القوانين, على حين تدهور وضع اليهود الألمان.سمحت السلطات النازية في الوقت ذاته للمنظمة الصهيونية بإقامة مراكز تدريب مهني وزراعي للمرشحين للهجرة, وبتنظيم صوف لتدريس اللغة العبرية تحت إدارة روبرت فيلتش. كما سمحت للصهيونيين الألمان بحضور المؤتمر الصهيوني التاسع عشر. ووافقت الشرطة السرية الألمانية (الغستابو) في بافاريا على أن يرتدي أعضاء إحدى الحركات الصهيونية الملابس التقليدية لحركة الشبيبة اليهودية, في حين منعت سائر اليهود من ارتدائها.ظل العمل باتفاقية <<هعفراه>> قائما حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939), وبلغت قيمة الصفقات خلال هذه الفترة 140 مليون مارك ألماني.ازداد عدد اليهود في ألمانيا بعد ضم النمسا إلى الرايخ وعقد اتفاقية ميونيخ وتقسيم تشيكوسلوفاكيا, وبدأت السلطات النازية حملة أوسع لتهجير اليهود بالتعاون مع الحركة الصهيونية التي أرسلت إلى ألمانيا النازية ممثلين عن الموساد* هما بنيو غيتسبورع وموشيه أفرباخ للتعجيل بتنفيذ البرنامج الصهيوني الخاص بتأهيل اليهود للهجرة إلى فلسطين. ومنذ نهاية كانون الأول 1938 كان هذان الموفدان يعملان باستمرار على أراضي الرايخ لإعداد قوافل الهجرة إلى فلسطين دون أية معارضة من الشرطة الألمانية. وأرسلت الحركة الصهيونية كذلك موفدا آخر إلى فينيا هو موشي بار ـ جلعاد لتنفيذ المهمة ذاتها. وكانت الطريق الوحيدة للهجرة غير القانونية تمر من خلال قيادة الغستابو ومكتب <<أس أس .s.s>> للشؤون اليهودية.ووافق أيخمان على طلبات بار ـ جلعاد بتأمين المزارع والمنشآت لإقامة مراكز تدريب للراغبين في الهجرة ممن وافقت عليهم الحركة الصهيونية. وأكد أيخمان <<أن ألمانيا النازية مستعدة لإعطاء الصهيونيين بعض المزارع الواسعة كي يقيموا فيها مراكز تدريب وتجميع للشباب اليهود تمهيدا لتهريبهم إلى فلسطين>>. بل إنه قام في إحدى المرات بطرد <<عدد من الراهبات من أحد الأديرة ليوفر للصهيونيين كل وسائل التدريب التي تلزمها في إحدى المزارع>>.وبنهاية عام 1938 كان نحو ألف يهودي يخضعون للتدريب في هذه المعسكرات التي أقامتها السلطات النازية. ووفر النازيون الحماية الرسمية لقوافل الهجرة إلى فلسطين.وكانت هذه الاتفاقية الخاصة بالهجرة قد أقرت رسميا من قبل النازين (ولو بشكل سري), وأصدر هتلر أوامره في كانون الثاني 1938 بتوجيه الهجرة اليهودية إلى فلسطين مباشرة, وأبلغت أجهزة الحزب النازي الوزارات المختصة بقرار هتلر أن يستمر تشجيع الهجرة اليهودية من ألمانيا إلى فلسطين بجميع الوسائل الممكنة.وفي 9/11/1938 نفذ النازيون اضطرابات المنظمة أحرقت فيها ممتلكات اليهود الألمان واعتدي عليهم. وكانت النتيجة أن أخذ اليهود من جميع أنحاء ألمانيا يتقدمون بطلبات الهجرة إلى مكاتب <<حركة الريادة الصهيونية>>. وقد بلغت نسبة المهاجرين اليهود من ألمانيا إلى فلسطين عام 1938 نحو 52% من المجموع العام لليهود المهاجرين. واستمر العمل باتفاقيات الهجرة الصهيونية ـ النازية على هذا الشكل لمدة سنتين بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.وعقب بدء الغزو النازي للاتحاد السوفيتي صيف عام 1941 وجد هتلر أنه لم يعد من الممكن تخليص أوربا من اليهود بالهجرة. وتبنى ما سمي <<الحل النهائي للمشكلة اليهودية>> فأقيمت معسكرات الإبادة الجماعية لتنفيذ هذا الحل.وإزاء هذه السياسة الجديدة للنازيين وجدت الحركة الصهيونية نفسها أمام اختيارين اثنين, الأول إلغاء اتفاقيات 1938 وإعلان الحرب ضد النازية. وهذا يعني التخلي بشكل نهائي عن تأمين هجرة محدودة للعناصر الصهيونية من أوربا والتعاون مع غير اليهود في مواجهة الغزو النازي, وبالتالي دحر فلسفة الحركة الصهيونية. والاختيار الثاني هو قبول السياسة النازية الجديدة ومساعدة السلطات النازية في تنفيذ خططها بشأن اليهود. واختارت الحركة الصهيونية الحل الثاني وأبقت باب الاتصال مفتوحا مع ألمانيا النازية.أقامت السلطات النازية في كل <<غيتو>>* يهودي ما سمي المجلس اليهودي ( اليودنرات). وكان معظم أعضاء المجالس من الصهيونيين الذين تعاونوا مع النازيين وقاموا بإعداد قوائم اليهود الذين أرسلوا إلى الموت وشاركوا في إخماد مقاومة يهود الغيتوات للغزو النازي. وشهد غيتو مدينة فيلنو (ليتوانيا) صورة واضحة لهذا التعاون في مشاركة جاكوب جنز ـ الصهيوني المتعاون مع النازيين وعضو المنظمة العسكرية للصهيونية التصحيحيين ونائب قائد قوة شرطة اليهود في فيلنو ـ في قمع مقاومة يهود الغيتو و إبادتهم, الأمر الذي دفع النازيين إلى تعينيه قائدا لجميع الغيتوات الريفية في منطقة فيلنو. وعمد آباكوفنر ممثل هاشومير هاتسعير (منظمة الحارس الفني) وقائد قوات القتال السرية في فيلنو إلى منع يهود الغيتو من مغادرته هربا من القتل, باستثناء أعضاء هاشومير هاتسعير. كما ساهم في إرسال اليهود الذين نجوا من الموت في الغيتو إلى معتقلات الإبادة.وفي سليزيا الشرقية العليا (قسم من بولونيا كان قبل نهاية الحرب العالمية الثانية تابعا لألمانيا) أقام النازيون مجلسا للشيوخ اختاروا أعضاءه من الصهيونيين, ونصبوا مونيك ميرين أحد الصهيونيين في جالية سوستوفيتش (سليزيا) زعيما لجميع مجالس الشيوخ, وترك مصير أي يهودي رهنا بقرارات هذه المجالس مع إبقاء عمليات الخطف والاعتقال في أيدي الشرطة اليهودية المتعاونة مع النازيين. وأعد المجلس اليهودي لغيتو بياليستوك (بولونيا) قوائم بأسماء 6,300 يهودي لإرسالهم إلى معسكرات الإبادة. وفيما بعد ساهم أفرايم باراز زعيم المجلس في إخفاء خطة النازيين (بدأ تنفيذها في 15/8/1943) لإبادة سكان غيتو بياليستوك الأربعين ألفا. ونظم حاييم رومكوفسكي أحد القادة الصهيونيين في لودر رحلات الموت لليهود وأصدر مراسيم خاصة به تكمل مراسيم النازيين.وكشف المستشرق البريطاني فارس غلوب النقاب عن أن رودولف كاستنير ـ من لجنة الإنقاذ التابعة للوكالة اليهودية في بودابست ـ وقع اتفاقا مع أدولف أيخمان يتعلق بمصير 800 ألف يهودي في المجر. وقد سمح بموجب هذا الاتفاق بهجرة 600 صهيوني بارز مقابل إبادة اليهود المجرين. وكان الشرط الإلزامي بأن سمحت السلطات النازية بإقامة دائرة إنقاذ برئاسة كاستنر تابعة لشرطة <<الأس. أس>>. وقد تم إخراج هذه الاتفاقية إلى العلن عام 1953 إثر الفضيحة المعروفة <<بقضية كاستنر>>. وحتى لا ينكشف المزيد من المعلومات عن تعاون الوكالة اليهودية مع السلطات النازية عمدت المخابرات الإسرائيلية إلى قتل كاستنر على يد أحد عملائها, رئيف أكشتاين.شهدت غيتوات بولونيا وليتوانيا والمجر ورومانيا حالات مماثلة لتعاون الصهيونيين مع النازيين على قمع معارضة اليهود وإرسالهم إلى معسكرات الموت في أوشفيتز وغيرها.وكشف الكاتب الألماني كلاوز بولكهين النقاب عن وثيقة سرية تسلط الضوء على علاقة منظمة الإرغون* بالنازية عام 1941. ومما جاء فيها: <<إن المنظمة العسكرية الوطنية التي تعرف جيدا حسن نية حكومة الرايخ الألماني وسلطاتها نحو النشاط الصهيوني داخل ألمانيا ونحو خطط الهجرة الصهيونية ترى:1ـ أن مصالح مشتركة يمكن أن توجد بين تأسيس نظام جديد في أوربا ينسجم مع المفهوم الألماني, و المطامح الوطنية الحقة للشعب اليهودي كما تجسمها المنظمة العسكرية الوطنية.2ـ أن التعاون بين ألمانيا الجديدة والأمة العبرية المتجددة سيكون ممكنا.3ـ أن تأسيس الدولة اليهودية التاريخية على أساس قومي وكلي مقيدة بمعاهدة مع الرايخ الألماني سيكون في مصلحة المحافظة على مستقبل القوة الألمانية في الشرق الأدنى وتعزيزه.<< انطلاقا من هذه الاعتبارات تعرض المنظمة العسكرية الوطنية القيام بدور نشيط في الحرب إلى جانب ألمانيا, بشرط اعتراف حكومة الرايخ الألماني بالمطامح الوطنية السالفة الذكر لحركة التحرير اليهودية>>.كانت ممارسات ممثلي الحركة الصهيونية المتعاونين مع النازيين في أوربا الشرقية انعكاسات للسياسة الصهيونية الرسمية وجزءا من المخطط الصهيوني الرامي إلى إقامة الكيان الصهيوني العنصري على أرض فلسطين. ومن أجل هذا الهدف عمدت الحركة الصهيونية إلى التعاون الكامل مع النازية وتقديم المساعدة الممكنة للتخلص من اليهود المعارضين للهجرة إلى فلسطين مقابل السماح بهجرة الصهيونيين. وقد استغلت الحركة الصهيونية ممارسات النازية على اليهود في أوربا ـ وكانت هي التي ساهمت في تنفيذها ـ لكسب الرأي العام الأوروبي إلى جانبها, و <<لجمع المليارات في شكل تعويضات من الألمان>> ولتبرير جرائمها العنصرية ضد الشعب العربي الفلسطيني بحجة إقامة وطن لليهود الذين اضطهدوا على أيدي النازية.وهكذا شكل التعاون الصهيوني ـ النازي صورة حية لأخطر حلف شيطاني بين أعتى حركتين عنصريتين في العصر الحديث

العلاقات الصهيونية النازية

الموضوع المحدد لهذه الورقة هو تناول العلاقات الصهيونية- النازية في الفترة الواقعة ما بين عامي 1933 و1942. أي منذ وصول هتلر إلى السلطة في 30 يناير 1933 وحتى 1941وإذا كان مما لا شك فيه أن هذه العلاقة قد مرت بإشكاليات متعددة متناقضة تندرج من التماهي الايديولوجي إلى العداء مروراً بالتعاون الوثيق وفق اتفاقات رسمية موقعة واتفاقات ضمنية مبرمجة، منها ما أعلن ومنها ما ظل طي ملفات التاريخ، بعد هزيمة الرايخ الثالث، واستسلامه بدون شروط، مما جعل أطنان الوثائق محظورة على الباحثين لسببين رئيسيين:
حرص المنتصر على تثبيت روايته الرسمية للتاريخ. وحرص الذين تعاونوا بشكل أو بآخر مع المهزوم، على إخفاء هذا التعاون كي لا يلحقهم ما لحقه من تجريم، وكي يكون بإمكانهم الوقوف في مقدمة جوقة الاتهام والإدانة للإفادة من مكاسب الانتصار ودعم المنتصر.
وكون هذا الاتهام وهذه الإدانة، لم يقتصرا على الجانب الحدثي السلوكي في إدارة السياسة والحرب، وإنما تعدى ذلك بشكل أساسي إلى الايديولوجيا نفسها، فلا بد من البدء بمقدمة تقوم على مقارنة سريعة بين الايديولوجيتين الصهيونية والنازية (وتمر بالفاشية أيضاً)، قبل الدخول في عملية الاستعراض التاريخي للفترة الحرجة المحددة أعلاه. مع ملاحظة أن المقدمة، ولكونها ما هي لن تقدم إلا فكرة سريعة عن موضوع يحتاج الكثير الكثير من الإضاءات والكشف والتدقيق.
في كتاب بعنوان "un juif libre" صادر عام 1976 يقوم الباحث ميشال راشلين بمقارنة مقتطفات من كتاب كفاحي ومن التوراة، ليخلص إلى تطابقها.
وفي كتاب آخر بعنوان "’histoire du mechant Dieu" L صادر عام 1988 يتابع باحث آخر هو بيير غريباري المقارنة ذاتها ليخلص إلى القول: "شئنا أم أبينا، والنصوص هنا واضحة تماماً: أن قانون موسى هو قانون عرقي، بل إنه (وعلينا ألا نتردد في القول)، القانون الكلاسيكي الأكبر من هذا النوع، النص الأقدم، والأكثر عنفاً الذي يبشر بعرقية ايديولوجية تبدأ من المقاربات الأولى وحتى أقصى حدودها. صحيح أن البشر لم ينتظروا التوراة ليقتتلوا، ولكن ما من نص جعل المذابح فرضاً دينياً بسبب عدم نقاء عرق الآخر. فاليهودية هي حقاً العنصرية ذات الحق الإلهي."
وفي هذا يقول هانز ف.ك. غونثر: "إن وعي الدور- المهمة أو الرسالة لدى هتلر هو مشدود بقوة ذات طبيعة شرقية."؛ كما يقول ناحوم غولدمان: "ثمة هوية أساسية لدى الألمان النازيين واليهود هي مواجهة المصير المشترك كمهمة إلهية."
وعندما سئل المنظر العرقي جوليوس سترايشر في محكمة نورغبرغ، عما إذا كان قد شارك في وضع القوانين العرقية التي وضعت في مؤتمر الحزب النازي عام 1935، أجاب: "نعم بمعنى أنني كنت أكتب منذ سنوات مطالباً بمنع اختلاط الدم اليهودي بالدم النازي، وقلت أن علينا أن نأخذ العرق اليهودي أو الشعب اليهودي نموذجاً... فالقوانين اليهودية هي التي اتخذت نموذجاً (لقوانين نورنبرغ)... إنه أصل اليهودية التي استطاعت بفضل قوانينها العرقية أن تستمر طوال قرون في حين انقرضت جميع الأعراق والحضارات الأخرى."
وفي هذا السياق يلاحظ حاييم كوهين الذي كان قاضياً للمحكمة العليا في إسرائيل: "إن سخرية القدر قد أرادت أن تكون الطروحات العرقية والبيولوجية التي تبناها النازيون وكانت وراء قوانين نورنبرغ، هي نفسها التي يبنى عليها تحديد صفة اليهودية في دولة إسرائيل."
ويتوجب التوقف هنا لملاحظة أمرين:
التماهي الواضح، في جواب سترايشر بين مصطلحي: العرق والشعب. مما يترجم الايديولوجيتين: النازية والصهيونية. في حين إن مصطلح الشعب في جميع النظريات غير العنصرية يعني ذلك الكيان الذي تذوب فيه جميع الأعراق في وحدة لا تقر بالتمييز.
اعتبار عدم اندماج اليهود: استمراراً. واعتبار اندماج الأعراق الأخرى في مزيج حضاري مجتمعي (وهذا ما نفهمه نحن بالقومية): انقراضاً.
وهذا ما يذكر بمقولة لباحث يهودي معادٍ للصهيونية هو غومبلو ويتش، الذي اعتبر أن كل مشكلة اليهود تكمن في أنهم "لم يعرفوا أن يذوبوا ويندمجوا كالفينيقيين"، مقولة جعلت ثيودور ليسنغ الصهيوني يقول عنه بأنه "نموذج لكره الذات".
وإذا ما اعتبر قائل أن هذا المفهوم العرقي هو واضح لدى اليمين الصهيوني في نظرية كاملة تعنونها مقولة جابوتنسكي الشهيرة: "إن مصدر الإحساس القومي موجود في دم الإنسان، في نمطه الفيزيائي- العرقي، وفيه فقط... إن الرؤية الروحية للإنسان تحددها أساساً بنيته الفيزيائية، لهذا السبب لا نؤمن نحن بالاندماج الروحي. إنه من غير القابل للتصور، من الوجهة الفيزيائية، أن يتمكن يهودي ولد في أسرة ذات دم يهودي نقي، من أن يتأقلم مع الرؤية الروحية لألماني أو لفرنسي. يمكن له أن يغرق في سائل جرماني. لكن نواة بنيته الروحية تظل أبداً يهويدية"، فإن اليسار الصهيوني لا يختلف كثيراً عن هذه الرؤية، حيث نجد بن غوريون يدين الاندماج بقسوة بل ويحتقر "اليهود المندمجين" وذاك ما يؤكده ويتبناه شيمون بيريز في كتاب لروبرت ليتل صادر عام 1996 بعنوان: "Conversation avec Shimon Peres"، مما يتماهى تماماً مع النظرية النازية التي كانت تصنف اليهود إلى نوعين: اليهود المندمجين هؤلاء أعداء النازية، واليهود الصهاينة وعم الحلفاء الممكنون.
كما عبر روبرت ويلتش رئيس تحرير جودش راندشو (المجلة اليهودية) في افتتاحية عدد 4 نيسان 1933، بالقول: "لقد قدمت النازية فرصة تاريخية لتأكيد الهوية اليهودية واستعادة الاحترام الذي فقده اليهود بالاندماج. إنهم مدينون لهتلر وللنازية."
ووارده سول فريداندر في كتاب صادر عام 1997 بعنوان Lallemagne nazie et les juifs عن دار سوي في فرنسا. ليضيف: "لقد كان مفهوم العرق، المحدد كمجموعة ميزات فيزيائية وذهنية، تتناقل داخل المجموعة بقوة التقاليد بل والجينات، قد استعمل من قبل اليهود أنفسهم من موشيه هس إلى مارتن بوبر، خاصة في ثلاث محاضرات ألقاها بوبر في براغ عام 1911 ونشرت تحت عنوان "ثلاث خطب في اليهودية" واستمر هذا المفهوم في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. حيث نجد لودويغ هولاندر رئيس الجمعية المركزية للمواطنين الألمان ذوي الديانة اليهودية (zentralverin) يؤكد عام 1928 في مطالعة الصعوبات التي تواجهها الطائفة اليهودية، إن اليهود قد شكلوا عرقاً، منذ المرحلة التوراتية، بسبب أصلهم المشترك، لكنه يتساءل عما إذا كان هذا المفهوم ما زال ينطبق على اليهود المعاصرين مجيباً: ما يزال النسب قائماً. وبتعبير آخر ما تزال المميزات العرقية موجودة حتى ولو خففت القرون من حدتها. إنها ما تزال حاضرة في الملامح الفيزيائية والذهنية."
كذلك يورد فريدلاندر منشوراً أصدره عام 1932 الكاتب الصهيوني غوستاف كروجانكر بعنوان (حول مشكلة القومية الألمانية الحديثة) يؤكد فيه أن التمرد الصهيوني على الليبرالية هو تلبية لفرائض الدم، ويجب أن يسمح بفهم عميق للتطور السياسي الحاصل في ألمانيا.
وإذا كنا نتوقف عند هذا المنشور لكونه صادراً عام 1932 أي في العام السابق لوصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا. بعد أن مررنا بـ1911 و1928 فإن المجال لا يتسع لاستعراض نظريات موشيه هس الذي أشار إليه فريدلاندر، والذي عاش في القرن التاسع عشر (1812-1875)، ودعا إلى عودة اليهود إلى فلسطين بدعم من نابوليون الثالث، والمعروف بعبارته الشهيرة: "إن ما يصنع التاريخ هو صراع الطبقات والأعراق" وبتأكيده على التعارض الجذري بين العرق الآري والعرق السامي.
كذلك لا يتسع لاستعراض علاقات هرتزل بغياتسلاف بلهيلف وزير القيصر اللاسامي عام 1903؛ أو لاستعراض العدد الكبير من الدراسات والكتب حول العرقية اليهودية، من مثل: "اليهود كعرق" للدكتور انياسي موريسي جودث اليهودي البولوني (القرن 19) أو "مشكلة العرق" لاينياس زولشان اليهودي النمساوي (1909)، أو كتب هاكل، غوبينو أو الأميركي موريس فوشبرغ "العلاقات العرقية المميزة لليهود" (1912) أو "اليهود كعرق أو كمجموعة ثقافية" لليهودي الألماني فريتز خان، إلى كتابات اليهودي البروسي ارثور روبين (1930) الذي استقر في فلسطين عام 1907 وأصبح مديراً للاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية منذ عام 1926. وسنعود إليه عند تناول اتفاقية الهعفارا.
في نقطة أخرى يؤكد زئيف ستيرنهيل، الباحث الإسرائيلي، في كتاب صدر عام 1996 أيضاً بعنوان: Aux origines d israel Entre nationalisme et soscialisme، إن الصهانية العماليين الذين كانوا يديرون الوكالة اليهودية لم يكونوا اشتراكيين ديمقراطيين، بل قوميين- اشتراكيين متأثرين بالقومية الألمانية Volkisch وبنظرية سوريل حول الأسطورة.
وهذا ما يؤكده حديث هؤلاء عن "قوة الأسطورة" وعملهم عليها، بدءاً من ثيودور هرتزل الذي استعرض سلبيات كثيرة لفلسطين (كوطن قومي لليهود) لكنه استطرد أنها كلها لا توازي قوة الأسطورة. الأسطورة التي لا تقوم عنصريتها فقط على نقاء العرق، رفض الاندماج، والعزل العرقي. وذاك ما سنعرض في الاستعراض التاريخي، بل وأيضاً على مبدأي: الإبادة العرقية، والترانسفير.
فإذا كان الحل النهائي النازي قد عنى كما أثبت المؤرخون: ترانسفير اليهود خارج الرايخ الثالث، أو نقلهم إلى المعتقلات. دون أن يعني الإبادة الممنهجة، حيث مات من مات في هذه المعتقلات بشكل لا إنساني مثلهم مثل سائر المعتقلين. فإن الترانسفير اليهودي الصهيوني الممنهج ضد سكان فلسطين، والإبادة الجماعية لهم، تمتد منذ يشوع إلى شارون، مروراً بكل قادة إسرائيل.
"فسمع الرب لقول إسرائيل ودفع الكنعانيين محرموهم ومدنهم" (عدد 21/3).
"فضربوه هو وبنيه وجميع قومه حتى لم يبقَ له شارد وملكوا أرضه" (عدد 21/35).
"متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوباً كثيرة من أمامك... ودفعهم الرب إلهك وضربتهم فإنك تحرمهم... لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم" (تثنية 5/1-2/).
وإذا كان حجر الأساس، المبرر لكل هذه المفاهيم اللإنسانية هو الإيمان بفكرة التفوق، النابعة من مبدأ الاختيار الإلهي الذي يصنف الناس إلى فوق ودون، فإن التفوق الآري، المرفوض مبدئياً وتطبيقياً إن هو إلاّ تجلٍّ حديث للتفوق اليهودي القديم الحديث.
من التوراة إلى الحاخام كوهين في كتابه "التلمود الصادر عن Payot في باريت عام 1986، حيث يقول: "يمكن توزيع سكان العالم إلى قسمين: إسرائيل والأمم الأخرى مجتمعة. إن إسرائيل هي الشعب المختار: عقيدة رئيسية." إلى آخر تصريحات المسؤولين والحاخامات الصهاينة في إسرائيل وخارجها.
العلاقة التاريخية 1933-1942:
ستقتصر هذه الورقة، كما هو عنوانها على العلاقة الصهيونية - النازية بدءاً من عام 1933 (كانت هناك بعض المواقف اليهودية المخالفة، والتي لن نتناولها لسببين: أولاً تحديد الموضوع وضيق المجال، وثانيًا إنها لم تكن ذات فاعلية تذكر، ولم تفضِ إلى نتائج ذات أهمية في سير العلاقة وفي النتائج السياسية).
تتحدد أهم المحطات بالقائمة التالية:
30 يناير: وصول هتلر إلى المستشارية.
5 آذار: حصول الحزب النازي على أكثرية في البوندستاغ.
13 آذار: إعلان مقاطعة ألمانيا من قبل المجلس اليهودي الأميركي.
1 نيسان: الرد الألماني عبر إصدار تشريع غير الآريين.
7 نيسان: تشريع إعادة تنظيم الوظائف العامة.
نيسان: رحلة تتشلار منفلستين إلى فلسطين.
21 حزيران: صدور ميموراندوم.
14 تموز: صدور قانون الجنسية.
7 آب: توقيع اتفاق الهعفارا.
30 آب: اعتراض الجمعية المركزية.
أكتوبر 33: افتتاح خط بحري مباشر بين هامبورغ وحيفا لنقل المهاجرين بإشراف حاخامية هامبورغ.
لم يكن تعيين هتلر في منصب المستشارية كافياً لسيطرة سياسة حزبه إلا بعد حصول الحزب على أكثرية في البوندستاغ في 5 آذار 1933، وبعد ذلك بثمانية أيام فقط، (40 يوماً من وصوله هو) طرح جوزيف توننبوم أحد قادة المجلس اليهودي الأميركي مقاطعة ألمانيا، ولم تكن الفكرة جديدة كونها طرحت أيضاً قبل ذلك بعامين. وظهرت تلبية سريعة للفكرة في بريطانيا حيث ظهرت على واجهات المحلات شعارات مقاطعة للبضائع وللسياح الألمان. لكن رئيس اتحاد صهاينة ألمانيا، ورئيس الجمعية المركزية للألمان ذوي الديانة اليهودية، أعلنا معارضتهما لسياسة المجلس اليهودي الأميركي، وخرجت مظاهرات ترفع هذا الاحتجاج في ألمانيا، لتقابلها في اليوم التالي مظاهرات أخرى في عدة مدن أميركية.
وردّ هتلر بطريقة تدريجية، أولاً بتنظيم يوم رمزي لمقاطعة المؤسسات التجارية اليهودية. لكنه لم يكن ينوي أكثر من ذلك، حرصاً على عدم التسبب فيما يضاعف الأزمة الاقتصادية في بلاده، وعندما تعرضت شبكة تيتز التجارية الكبيرة اليهودية للإفلاس، أمر بصرف قرض كبير لإنقاذها.
لكن مقاطعة البضائع الألمانية تنامت في الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، تشيكوسلوفاكيا، رومانيا، بولونيا. وإزاء هذا التأزم كان هناك موقفان: موقف الجمعية المركزية لليهود والألمان ذوي الديانة اليهودية، برئاسة لودويج هولاندر الذي كان يرفض الصهيونية، ويرفض أية ادعاءات تقول أن اليهود عرق مختلف ويؤمن بالانتماء إلى الأمة الألمانية، ويعارض أية تدابير ضد ألمانيا؛ وموقف المنظمات الصهيونية، الذي تحدد علناً بصدور ميموراندوم 21 حزيران، عن المنظمة الصهيونية في ألمانيا (Z.V.F.D)، والذي يقول عنه المؤرخ فرنسيس نيقوزيا: "يبدو وكأنه يدعو إلى تعاطف مع نظام هتلر، ويطرح كون الصهيونية متوافقة مع مبادئه".
وقد جاء فيه: "لا تبني الصهيونية أي وهم حول صعوبة الوضع اليهودي، الذي يتمثل أساساً في بنية اجتماعية غير طبيعية، ووضع ثقافي فكري غير متجذر في تراث خاص، لقد استشرفت الصهيونية منذ وقت طويل، أن ظواهر تراجع وتخلف لم تتأخر عن الظهور بسبب الميل إلى الاندماج، وتعتقد الصهيونية بأن انبعاث الحياة القومية للشعب، الذي يحصل اليوم في ألمانيا، مع التشديد الذي يتم على جذوره المسيحية، وطابعه القومي، هو ما يجب أن يحصل داخل المجموعة القومية اليهودية، وبالنسبة للشعب اليهودي أيضاً: أن الأصل القومي، الدين، حس المصير المشترك، وحس فرادته وتفوّقه يجب أن تتخذ معنىً حاسماً في الوقت الذي يبنى فيه مستقبله... ونحن نعتقد أن ألمانيا الجديدة، تحديداً، هي التي تستطيع بفضل إرادة مصممة أن تجد حلاً لمسألة يجب أن تحل لدى سائر شعوب أوروبا... إن اعترافنا بالقومية اليهودية يقدم لنا أسس صداقة صادقة مع الشعب الألماني وحقائقه الواقعية القومية والعرقية. ولأننا تحديداً، لا نريد ولا نتمنى تخريب هذه المعطيات الأساسية (فنحن أيضاً ضد الزيجات المختلطة، ونريد الحفاظ على نقاء الجماعة) فإننا نرفض كل تداخل في المجالات الثقافية... ولبلوغ هذه الأهداف العملية. تأمل الصهيونية في الحصول على تعاون حكومة حتى ولو كانت معادية لليهود. ذاك أنه لا مجال للمشاعر في حل المسألة اليهودية، بل لمعالجة مشكلة حقيقية يهمّ حلها جميع الشعوب، وفي هذا الوقت الشعب الألماني خاصة... إن الدعاية لصالح مقاطعة ألمانيا، كما تتم الآن وبطرق مختلفة، هي في جوهرها دعاية مناهضة للصهيونية."
وإذا كانت تصريحات كثيرة مشابهة قد تلت هذا الميموراندوم، سنعرض لها في حينها، فإن روبرت ويلش كان قد كتب في افتتاحية "المجلة اليهودية" (جودش راندشو) يوم 4 نيسان 1933 (مجلة Z.V.F.D) "إن النازية تقدم فرصة تاريخية لإعادة تأكيد الهوية القومية اليهودية، وسيستعيد اليهود الاحترام الذي فقدوه بسبب الاندماج، وسيطلقون انبعاثهم القومي الخاص. إن اليهود مدينون لهتلر...".
في 7 نيسان، تم إقرار قانون إعادة تنظيم الوظيفة العامة بهدف إبعاد الخصوم من صفوف الجهاز الحكومي بدءاً بالشيوعيين. غير أن ما عرف بـ"الفقرة الآرية" كان يستهدف اليهود، ولكن التطبيق العملي لم يطلهم كثيراً لسببين:
1- أن عددهم كان قليلاً في الجهاز الحكومي.
2- تدخل جمعية قدماء المحاربين اليهود الذي أدى إلى استثناء جميع الذين قتل آباؤهم أو أولادهم في الحرب الأولى. وجميع اليهود الذين يعملون في خدمة الدولة منذ أول آب 1914.
وهكذا كان مصير القوانين التي تتالت بعدئذٍ حول: زيادة عدد الطلاب اليهود في المدارس أو بخصوص المحامين والأطباء أو الملكيات الزراعية أو المؤسسات الثقافية.
ولتكلل كلها بقانون الجنسية الذي حمل عنوان: "قانون إلغاء التطيبع والاعتراف بالمواطنة الألمانية" الذي كان يهدف إلى إلغاء التجنيس الحاصل بين 9 نوفمبر 1918 و30 يناير 1933. وكان يستهدف بشكل خاص يهود أوروبا الشرقية. لكن ذلك لم يؤثر في التصريحات الإيجابية من كلا الطرفين.
لكن: ما هي العلاقات السياسية التي كانت وراء هذه الإعلانات المؤيدة المتحمسة؟ ما الذي كان يدور في الخفاء بين النازيين والصهيونية؟ وتحديداً بين هؤلاء ومكتب الشؤون اليهودية في الاستخبارات الألمانية؟
رحلة منغلستين
في ربيع (1933)، التقى أربعة أشخاص في محطة برلين، ليستقلوا القطار إلى تريست، ومنها إلى ظهر الباخرة مارثا واشنطن، وهي باخرة كانت تحمل المهاجرين اليهود إلى فلسطين. الغريب في الأمر هنا يكمن في تشكيلة الفريق. زوجان يهوديان "تتشلر"، مرسلان من قبل الاتحاد الصهيوني في ألمانيا، وزوجان نازيان، (فإن ميلغن) مرسلان من قبل أجهزة الحكومة النازية. أما هدف هذه الرحلة التي دامت ستة أشهر، فقد كان القيام بتحقيق كامل قدر الإمكان، حول إمكانيات توطين يهود ألمان في فلسطين. ويتفق معظم المؤرخين على أنه لم تكن لأدولف هتلر أية سياسة متكاملة محددة حول المسألة اليهودية، حتى ليلة الكريستال المشهورة ليلة 9/10 نوفمبر 1938، وذلك رغم تصريحاته المبدئية ورغم بعض التدابير الخاصة من مثل مقاطعة اليهود الألمان اعتباراً من أول أبريل 1933، وإقرار تشريع حول غير الآريين، بعد ذلك بأسبوع.
هذا الموقف غير المحدد ترك الحرية شبه الكاملة لمكتب الشؤون اليهودية في الاستخبارات الألمانية (S.S) لتجريب مختلف السياسات الممكنة. وفي سياق ذلك جاءت رحلة البارون ليود بولد التي نسيت كلياً اليوم. وذلك رغم أن ميلغنستين لم يكن شخصاً هامشياً أو غير جاد. فهو عضو في (N.S.D.A.P.) وضابط كبير في الأجهزة السرية. كما أنه كان قد سبق وكلّف قبل عام (1933) بتقديم تقرير دقيق حول الهجرة اليهودية باعتبار أن الحكومة لم تتوصل إلى حل مرضي إلى هذه القضية. مما مكن الاستخبارات من أن تمتلك، وقبل سواها من أجهزة السلطة، عناصر ملموسة ودقيقة جعلتها تمسك بزمام المسألة اليهودية من عام (1934) إلى عام (1936) باعتبارها التنظيم الوحيد الذي يمتلك معلومات دقيقة حول هذا الموضوع. كان ميلغنستين مهندساً ولد في براغ عام (1902)، واهتم منذ مرحلة الدراسة، بالمسألة اليهودية، وشارك في اجتماعات الفئات اليهودية المختلفة. ثم التحق بصفوف الاستخبارات الألمانية باعتباره واحد من الخبراء النابغين في موضوع اليهودية وكصهيوني متحمس، كان من أول من رأوا أهمية وجود المنظمات الصهيونية، وخاصة المراجعة منها، داخل صفوف المجموعة اليهودية.
كتب ميلغنستين في حينه سلسلة من اثنتي عشرة مقالة موثقة تماماً، تحت عنوان "نازي يترحل في فلسطين"، وذلك في الصحيفة البرلينة اليومية Der Angriff التي كان يشرف عليها الدكتور غوبلز. وفي هذه المقالات يعرب عن إعجابه الشديد بالصهيونية وبالروح الرياضية لدى المستوطنين اليهود الأوائل. ويخلص إلى استنتاج مفاده "أن الوطن القومي لليهود في فلسطين سيكون علامة على وسيلة لشفاء جرح قديم يعود إلى عدة عصور هو: المسألة اليهودية". وقد ضربت، تخليداً لذكرى هذه الزيارة ميدالية خاصة بطلب من غوبلز شخصياً وكانت تحمل على أحد وجهيها إشارة السويستيكا (أي الصليب المعقوف) وعلى الوجه الآخر نجمة داود. بعد ذلك ببضعة أشهر، عين ميلغنستين في قسم الشؤون اليهودية في وزارة الأمن النازية. وذلك ليقوم بدعم أكثر فعالية لجهود الصهانية المتعلقة بالهجرة. "لقد أصبحت أجهزة الاستخبارات، كما كتب برنا، الجزء الأكثر صهيونية في الحزب النازي. في حين كان النازيون الآخرون يتحدثون عن ضعفها إزاء اليهود. وقد ازداد حماس البارون فان ميلغنستين للقضية الصهيونية بعد زيارته إلى فلسطين. مما دفعه إلى دراسة العبرية وجمع الأشرطة الناطقة بهذه اللغة. وأصبح على رأس الدائرة اليهودية في جهاز الأمن النازي وعندما قام صديقه (اليهودي) كورت توتشلر، الذي رافقه إلى فلسطين، بزيارته في مكتبه الجديد عام (1934)، استقبله وفق الطقوس الفلكلورية التقليدية اليهودية. وكانت على جدران مكتبه خرائط تبين التطور السريع للصهيونية في ألمانيا."
ومن سخرية القدر أن ميلغنستين هو الذي عين أدولف ايخمن في قسم الشؤون اليهودية في جهاز الأمن. وعندما جرت محاكمة ايخمن في إسرائيل بعد ذلك بسنوات، باعتباره "منظم الحل النهائي"، كان عليه أن يشهد "بأن ميلغنستين كان رجلاً معتدلاً ومنصفاً مخلصاً في جهوده لإيجاد حل عادل للمسألة اليهودية".
على إثر هذه الرحلة وإثر مناقشات عديدة أعلنت صحيفة الأجهزة السرية (Das Schwarze Korps) رسمياً دعمها للصهيونية. "لم يعد بعيداً الوقت الذي تصبح فيه فلسطين قادرة على استقبال أبنائها الذين فصلوا عنها أكثر من ألف عام وترافقهم تمنياتنا الطيبة وتمنيات الدولة".
كان هذا التطور في العلاقة، مترافقاً مع تطور تفاقم الحصار الاقتصادي الدولي على ألمانيا، مما ولّد فكرة مقايضة كسر المقاطعة مقابل تفعيل وتنظيم الهجرة إلى فلسطين، هذه الفكرة التي أودت في النهاية إلى ما يعرف باتفاق الهافارا.
البداية كانت فكرة لسام كوهين مدير شركة المستوطنات (هانوتا) في فلسطين، عرضها على قنصل ألمانيا هنريتش وولف، لتحقيق "فائدة مزدوجة" للطرفين. تقضي بأن تقوم الشركة بكسر الحصار الاقتصادي على ألمانيا، مقابل تنظيم هذه الأخيرة لهجرة اليهود إلى فلسطين، لا إلى مكان آخر، بحيث يودع المهاجرون أموالهم في ألمانيا فتشتري بها هانوتا بضائع ومعدات زراعية، ليس فقط للمستوطنات وإنما لإغراق السوق العربي، وتعيد للمستوطن ما أودع مستفيدة هي من الأرباح. وعندما وافقت ألمانيا، أعلنت المنظمة الصهيونية العالمية موافقتها على المبدأ لكنها أسفت لأن الاتفاق عقد مع شركة خاصة. ودار خلاف أنهاه الألمان بأن جمعوا سام كوهين ومساعد له في هانوتا، مع مندوب اتحاد صهاينة ألمانيا، وشخصين قدما من فلسطين هما مدير البنك الانكلو فلسطيني ومدير الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية أرتور روبين، وانتهى الأمر باضطرار كوهين للتنازل وتأسيس وحدة تحت إدارة اليعازر هوفمن وذلك بعد تدخل حاييم أرلوزوروف مبعوث بن غوريون، الذي يؤكد توم سيغيف أنه ذهب للتمهيد للاتفاق وعاد قبل توقيعه ليغتال على يد الصهاينة المراجعين.
وفي يوم 7 آب 1933 تم التوقيع الرسمي على الاتفاق، في وزارة الاقتصاد الألمانية من قبل ممثلي الوكالة اليهودية، وارتور روبين ممثلاً المنظمة الصهيونية العالمية من جهة، ومسؤول كبير في الرايخ الثالث من الجهة الأخرى. وبعد تبادل الرسائل الرسمية بين الطرفين أنشئت لهذا الغرض شركة باسم بالترو في برلين، وأخرى باسم هافارا كومباني في تل أبيب. كما أنشئ خط بحري مباشر بين مينائي هامبورغ وحيفا، بإشراف حاخامية هامبورغ، استطاع أن يؤمن من عام 1933 إلى عام 1939 هجرة ستين ألف يهودي أي 10% من الطائفة (73% كانوا يفضلون أوروبا الشرقية/ حتى عام 1938/) ونقل 140 مليون دولار، وذلك باعتراف الياهو بن اليسار، وفيلسنفيلد الذي كتب يقول: "كان للنشاط الذي حركته الهافارا الأثر الأكبر على تطور البلاد، بل إن عدداً من أهم المصانع والشركات الآن يدين بوجوده لها."
ويمكن فهم ذلك إذا ما عرفنا أنه كان على كل مهاجر أن يودع مبلغ ألف ليرة سترلينية على الأقل في حساب خاص في برلين (أي ما يساوي دخل أسرة بورجوازية لمدة ثلاث سنوات) كما يسمح له بإرسال بضائع تساوي قيمتها 20 ألف فرنك.
كان التعاون الألماني الصهيوني يستند إلى اتفاق موقع في آب (1933)، باسم اتفاق "هَعْفارا" (الترانسفير)، عقد إثر عدة اجتماعات بين الحكومة الألمانية وحاييم آرلوزوروف الأمين العام للوكالة اليهودية، وهي الفرع الفلسطيني للمنظمة الصهيونية العالمية. وبموجب هذا الاتفاق أنشأت شركتان: Havara Company في تل أبيب وBaltreu في برلين. وكان كل مهاجر يهودي ألماني يودع ألف ليرة استرلينية على الأقل في حساب خاص في ألمانيا (1000)، هي المبلغ الذي يشترطه الانجليز للسماح بالإقامة في فلسطين، وكان يشكل تقريباً دخل أسرة برجوازية ألمانية لمدة ثلاث سنوات. كما يسمح بإرسال بضائع تساوي قيمتها عشرين ألف فرنك وأحياناً أكثر، عن طريق البحر.
هذا المال المودع في برلين كان يستعمل لشراء (بضائع ألمانية، آلات، أدوات، مضخات، مواد بناء، أسمدة... الخ) تنقل إلى فلسطين لتعيد شركة يهودية في تل أبيب بيعها هناك. أما دخل هذه المبيعات فيستعمل لتمويل اليهود الذين يصلون إلى فلسطين. كانت مصلحة ألمانيا في ذلك تتمثل في كون الصهاينة يقومون بخرق الحصار ضد البضائع الألمانية ويقومون بتوزيعها بأنفسهم، كما تتمثل مصلحة هؤلاء في الخروج من العزلة وفي إجبار المهاجرين على الذهاب إلى فلسطين دون سواها.
ناقش المؤتمر الصهيوني المنعقد في آب عام 1933، في براغ، موضوع الهافارا مناقشة طويلة بحضور مندوبين ألمان. رفضت خلالها المنظمة الصهيونية العالمية اقتراحاً بالمساهمة الفعالة في الحصار المفروض على ألمانيا. وأحيل اتفاق الهافارا إلى المؤتمر الصهيوني التالي المنعقد في آب وأيلول (1935) في سويسرا، حيث تمت الموافقة عليه وتصديقه: وفي مؤتمر لوسيرن انتقل نظام الهافارا إلى الرقابة المباشرة للجنة التنفيذية الصهيونية، من ضمن نقل جميع العمليات التي كانت حتى ذلك الحين مناطة بالبنك الانغلو- فلسطيني. وقد سمح للمنظمة الصهيونية العالمية بفتح مراكز تدريب مهني وزراعي للمرشحين للهجرة في ألمانيا. كما نظمت دروس بالعبرية في المدن الكبرى وأصدرت صحيفة صهيونية باسم (Judishe Rundschau) مهمتها إيصال الخطاب الصهيوني إلى الأسر والمنازل. ولم تتوقف الهافارا عن العمل مع إعلان الحرب. والمهم أن ما ظل مجهول حتى الآن هو أن عدة دول أخرى قد قلدت نظام الهافارا، من مثل بولونيا عام 1937 تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وإيطاليا عام (1939).
كانت أعمال الهافارا، في معظمها، عبر شركات تأمين قائمة في ألمانيا وفي فلسطين. فقبل ترك ألمانيا، يودع المهاجر اليهودي أمواله لدى شركة تأمين ألمانية، تقوم بدورها باستعمال هذه الأموال في شراء التجهيزات والبضائع الألمانية وإرسالها إلى فلسطين. ومن ثم يقوم الزبائن الذين نظموا طلبيات هذه البضائع الألمانية في فلسطين، بدفع أثمانها إلى شركة تأمين محلية، تعيد إلى المهاجرين اليهود الواصلين من ألمانيا المبالغ التي دفعوها هناك. كان النظام معقداً وثقيلاً، لكنه مربح بالنسبة لجميع الفرقاء: فالرايخ يتخلص بواسطته من يهوده، ويكسر الحصار الذي فرضته عليه المنظمات اليهودية الأمريكية، ويشغل مصانعه. في حين أن الصهاينة أنفسهم يتمكنون بواسطته من اختيار نخبة اليهود الصهاينة لإرسالهم إلى فلسطين كهدف إلزامي. ذاك أن الصهاينة كانوا قد تصدوا عدة مرات لمنع إمكانيات هجرة يهود ألمانيا وأوروبا الشرقية عندما لم يكن البلد المقصود هو فلسطين. وبتلك الطريقة تم نقل حوالي مئة وثلاثين مليون دولار، وهو مبلغ ضخم ساعد في التنمية الاقتصادية للدولة العبرية فيما بعد. كما وصل عدد اليهود الذين هاجروا من ألمانيا بي (1933) و(1939)، بفضل نظام الهافارا، إلى 60 ألف يهودي أي حوالي 10% من مجموع يهود ألمانيا. و15% من مجموع يهود فلسطين عام (1939). وكانت هذه الهجرة تتم في ظروف ممتازة. حيث يروي توم سيغيف مثلاً أن المهاجرين اليهود الذين صرفوا من أعمالهم، ظلوا يتقاضون تعويضات البطالة من صندوق مالية الرايخ الثالث حتى وهم موجودون في فلسطين.
لم تكن الوكالة اليهودية المسؤولة عن الهجرة إلى فلسطين والتي يسيطر عليها الصهاينة تهتم بالوضع الصعب الذي يعيشه يهود ألمانيا، بل أن اهتمامها كان ينصب على إمكاناتهم وقدرتهم على العمل... الخ: "أن المادة البشرية القادمة من ألمانيا تصبح أسوأ فأسوأ- تعلن الوكالة اليهودية مستنكرة في عام (1934)- ليس لديهم الرغبة في العمل ولا الكفاءة، وهم بحاجة إلى مساعدة اجتماعية." كذلك يذكر توم سيغيف أن المنظمة "أرسلت عام (1935) إلى برلين قائمة بأسماء الأشخاص الذين يتوجب ألا يسمح لهم بالذهاب إلى فلسطين". كما يكشف سيغيف عن أن مسؤول العمل الاجتماعي في الوكالة اليهودية قد طلب عدة مرات أن تعاد بعض هذه "الحالات" من المرضى أو المحتاجين إلى ألمانيا النازية كي لا تصبح عبئاً على (اليوشفيم) أي مجموعة الرواد. كما أن الوكالة اليهودية اشتكت من استقبال عدد كبير من رجال الأعمال الذين لديهم أطفال في حين أنه يجب إعطاء الأفضلية للعازبين. وفي عام (1935) تقرر أن تعطي أذونات الهجرة بحيث "لا يكون هناك أي مجال للشك بأن هؤلاء المهاجرين يمكن أن يشكلوا عبئاً على البلاد (..) وكل من ينصرف إلى التجارة أو إلى أي نشاط آخر لا يتلقى أذن الهجرة بأي حال من الأحوال، إلا إذا كان أحد الصهاينة المتحمسين".
ومن عام (1933-1935) رفضت المنظمة الصهيونية العالمية ثلثي طلبات الهجرة التي قدمها يهود ألمانيا، مفضلة إعطاء الأولية وبشكل منهجي، للشباب، ويصف بريل كازنيلسون صاحب جريدة دافار الصهيونية العمالية هذا "المعيار المجرم الذي تبنته الصهيونية" بقوله: "لقد كان يهود ألمانيا متقدمين في السن مما لا يسمح لهم بإنجاب أطفال في فلسطين، كما أنهم لم يكونوا يملكون المهن والحرف التي تساعد في إنشاء مراكب صهيونية، إضافة إلى أنهم لا يتحدثون العبرية وليسوا صهاينة. وبدلاً من هؤلاء اليهود المعرضين للإبادة استقدمت المنظمة الصهيونية العالمية ستة آلاف شاب من الذين تلقوا تدريبات محددة في الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا ودول أخرى ليس فيها أي خطر. بل أن الأسوأ من ذلك أن المنظمة الصهيونية العالمية لم تكتف بعدم البحث عن أي مبادرة لإنقاذ يهود ألمانيا، بل أن مسؤوليها قد عارضوا بشكل قاطع جميع الجهود التي كانت ترمي إلى إيجاد ملجأ لليهود الهاربين."
مما يلتقي مع ما أورده روجيه غارودي عن كتاب بار زوهار: "بن غرويون النبي المسلح" من أن رودولف كاستنر فاوض ايخمن على أن يسهل هذا الأخير هجرة 1684 يهودياً نافعاً إلى إسرائيل مقابل إقناع كاستنر لـ46 ألف يهودي هنغاري بأن نقلهم إلى أشويتز مجرد تغيير لمحل الإقامة.
كما يؤشر إلى الفضيحة التي حصلت أثناء محاكمة ايخمن حيث طالب القاضي بمحاكمة كاستنر لأنه تدخل في نورنبرغ بشهادة كاذبة لإنقاذ أحد محاوريه من النازيين ولأنه أخفى أن تدخله كان باسم الوكالة اليهودية والمجلس اليهودي العالمي.
وفي 14/7/55 كتب الدكتور موشي كارين في هاآرتس مطالباً بتجريم كاستنر لكن يدعوث احرونوث كانت قد أوضحت: "إذا حوكم كاستنر فإن الحكومة كلها ستتعرض للانهيار، نتيجة لما ستكشف عنه هذه المحاكمة. وانتهى الأمر باغتيال كاستنر على سلم قصر العدل. ثم أصدرت المحكمة حكماً ببراءته.
قوانين نورنبرغ
بعد النشاط المتسارع في تطبيق الهافارا، وفي عام 1934 كتب الحاخام جوهاتسيم برينز، الذي أصبح فيما بعد نائباً للمنظمة الصهيونية العالمية محيياً "الثورة الألمانية" قائلاً: "نريد استبدال الاندماج بقانون جديد: الاعتراف بالانتماء إلى العرق اليهودي والأمة اليهودية. إن أمة مبنية على نقاء العرق لا يمكن إلا وأن تكون محترمة ومؤيدة من قبل اليهودي، الذي يعلن انتماءه إلى شعبه الخاص وإذ يعلن أنه كذلك فلا يمكنه بالتالي أن يدين بالولاء والانتماء لدولة. هذه الدولة لا تريد يهوداً إلا أولئك الذين يعلنون انتماءهم إلى أمتهم الخاصة، لا تريد يهوداً مادحين وزاحفين. عليها أن تطلب منا الإيمان والولاء لمصالحنا الخاصة. لأن الذي يمجد أصله ودمه هو وحده الذي يستطيع أن يحترم ويمجد الإرادة القومية للأمم الأخرى."
هذه الرغبة، لبـّتها في العام التالي 1935، قوانين نورنبرغ، وهي القوانين الثلاثة المعروفة بـ:
قانون علم الرايخ
قانون المواطنة
قانون حماية الدم والشرف الألمانيين.
وأول ما يلاحظ أنه قد حرم على اليهود رفع علم الرايخ، لكنهم كانوا الجماعة الوحيدة التي سمح لها برفع علمها الخاص. كما يلاحظ أن قاسماً مشتركاً جمع بين رؤية هتلر، والألمان، والصهاينة لهذه القوانين.
فحيث نقلت صحيفة الحزب النازي أن الفوهرر التقى مسؤولي الحزب ليوضح لهم أن هذه "القوانين القومية الاشتراكية تمثل الطريقة الوحيدة لإقامة علاقات مقبولة مع اليهود... وتقدم لهم في كل مجالات حياتهم القومية (فولكش) إمكانيات لم تتوفر لهم في أي بلد آخر.". كما نجد مؤرخاً إسرائيلياً (ديفيد بانكييه) يؤكد على أن الألمان أيدوا هذه القوانين لأنها "تتناغم مع السياسة العنصرية" و"تثبت حدوداً للأنشطة اللاسامية". وكذلك يؤكد سول فريدلاندر أن اليهود الألمان اعتقدوا أن هذا التشريع الجديد سيرسي بنية معترفاً بها... وتنشئ قاعدة جديدة للعلاقة بين الشعب الألماني واليهود الذين يعيشون في ألمانيا."
وفي 26 أيلول صدرت (دار شورازكوربس) جريدة الأجهزة السرية لتقول: "إن الاعتراف بالمجموعة اليهودية كجماعة عرقية تقوم على الدم لا على الدين تقود الحكومة الألمانية إلى ضمانة الوحدة العرقية لهذه الجماعة. وتجد الحكومة نفسها على اتفاق تام مع الحركة الكبيرة لهذه الجماعة التي تسمى الصهيونية، التي تعترف بتضامن جميع يهود العالم ورفضها لأي مفهوم اندماج. وعلى هذا الأساس تتخذ ألمانيا المبادرة إلى تدابير ستلعب بكل تأكيد دوراً ذا دلالة في حل المسألة اليهودية في العالم."
لتأتي ردود فعل الصهاينة الألمان أكثر حماساً فنجد (جودش راندشو) تنشر في اليوم التالي (17 أيلول) افتاحية حماسية جاء فيها: "إن ألمانيا... تستجيب لمطالب المؤتمر الصهيوني العالمي إذ تعلن أن اليهود المقيمين حالياً في ألمانيا هم أقلية قومية. ففي حال الاعتراف باليهود كأقلية قومية يصبح من الممكن من جديد إقامة علاقات طبيعية بين الأمة الألمانية والأمة اليهودية. وتقدم القوانين الجديدة للأقلية اليهودية الفرصة لأن تعيش حياتها الخاصة... باختصار يمكن للشعب اليهودي أن يكون مستقبله الخاص في كل مظاهر حياته القومية... والمشروع الذي يمضي من حالة الطائفة إلى حالة الأمة سيحظى بالتشجيع، كما ستقدم المساهمة لإرساء علاقات فضلى بين الأمتين".
كذلك تبنت مجلة دايراسرائيليت مجلة الهيود الأرثوذوكس الموقف نفسه وعبرت عن تأييدها المطلق لمنع الزيجات المختلطة. (19 أيلول 1935).
وفي المقابل كانت صحيفة داز شوارسكوبس قد نشرت افتتاحية يوم 15 آذار 1935 جاء فيها: "لم يعد بعيداً الوقت الذي تستطيع فيه فلسطين أن تستقبل أبناءها الذين فصلوا عنها طيلة أكثر من ألف سنة. فلترافقهم تمنياتنا الطيبة، وحسن نية الدولة." وبعد شهرين كتب هيدريش في الصحيفة نفسها: "يدعو الصهاينة إلى مفهوم عرقي تماماً. ويساعدون عبر الهجرة على بناء دولتهم اليهودية الخاصة، إن تمنياتنا الطيبة وحسن نيتنا الرسمية معهم."
كذلك عبّر المنظر العرقي الفرد روزنبرغ عن دعمه الكامل للصهيونية، في حوار مع صحيفة L'echo de Paris عد 30 أيار 1935. حيث كان مسؤولو الرايخ ينتظرون من الصهاينة تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين. وفي هذا يورد فرانسيس نيقوزيا، ما كتبه هانزل مريدنثال رئيس اتحاد صهاينة ألمانيا: "كان الغستابو يعمل كل ما في وسعه لتشجيع الهجرة، خاصة باتجاه فلسطين. وغالباً ما كنا نتلقى مساعدته عندما كنا نحتاجها لدى حكومات أخرى بهدف تشجيع الهجرة."
وفي السياق ذاته حمل جورج لاندور، أحد موقعي الهافارا، رسالة من بن غوريون مؤرخة 21 يناير 1935 تحمل تفويض الوكالة اليهودية له لمناقشة قضايا التدريب المهني للمرشحين للهجرة. وكان هناك حتى ذلك التاريخ أربعين مركز تدريب مهني وزراعي تعمل على ذلك. وبأمر من هيدريش وضعت مزارع تحت تصرف الصهاينة ونظمت دروس بالعبرية في عدة مدن."
وربما يكون لذلك علاقة بالمعايير الانتقائية التي حرصت عليها الوكالة اليهودية في منع أذونات الهجرة بعد أن اشتكت عام 1933 من أن "المادة أو البضاعة البشرية الواردة من ألمانيا تسير من سيء إلى أٍوأ."
وبعد أن احتجت هنرييتا سزولد التي كانت تدير وحدة العمل الاجتماعي في الوكالة على وجود المرضى والمحتاجين بين المهاجرين. ومن حين لآخر كانت تطالب بإعادة بعض هذه "الحالات" إلى ألمانيا كي لا يصبحوا عالة على اليشوف." (توم سيغيف)
في الوقت ذاته، أي بداية 1935 عين مندلستين أدولف ايخمن مسؤولاً عن العمل على الصهاينة في حين كلف شرودر بالعمل على اليهود المندمجين. ويؤكد المؤرخ هينز هوهن أن ايخمن لم يكن لاسامياً بل كان في أسرته يهود وكان يعاشر فتاة يهودية، ويدين بموقعه في عالم المال لليهود. وأنه عكف على دراسة الحركة الصهيونية واللغة العبرية بعد تعيينه، وكتب عام 1936 رسالة حول المنظمة الصهيونية العالمية. وكانت الأجهزة السرية ما تزال مقسومة إلى فرعين (S.D) والغستابو، تجمعهما رئاسة هيدريش مما ترك لايخمن هامشاً من حرية التصرف.
أما مندلستين (رئيسه) فكان يعلن تعاطفه العميق مع الصهيونية وازدراءه للاسامية جوليوس سترايشر، وقد "قام- كما يقول توم سيغيف- بنشر الصهيونية لدى الجمهور الألماني، وكان ينقل معلومات لتاتسلار (المسؤول الصهيوني الذي رافقه إلى فلسطين) حتى بعد استقرار هذا الأخير في فلسطين. وعندما ترك مندلستين الجهاز السري (S.D) عام 1936 حل محله ديتر ويزلسنسي الذي لم يكن أقل تعاطفاً مع الصهيونية.
لكن التطور الخطير، الذي يحاول التاريخ الرسمي طمسه هو ما حصل في نهاية 1937 وما أورده توم سيغيف تفصيلاً في كتاب "المليون السابع" حيث قام عضو بارز في الحزب النازي هو أوتو فون بودلشوينغ، صديق مندلستين، والمفاوض السابق في حيفا، بلفت نظر القسم الثاني في الأجهزة إلى الأهمية التي يمكن أن يمثلها التعاون مع الهاغانا عبر يهودي ألماني استقر في فلسطين يدعى ريشرث، وهو على علاقة وثيقة بفوفيل بولكس أحد مسؤولي هذه المنظمة.
هكذا وجهت الدعوة إلى بولكس لزيارة برلين، حيث استقبله ايخمن يوم 16 شباط 1937. وأكد بولكس لمضيفه أن المسؤولين الصهاينة راضون تماماً عن السياسة التي تنتهجها الحكومة الألمانية والتي من شأنها تشجيع الهجرة. ووجه هذا المسؤول الإرهابي الدعوة لايخمن وهاجن لزيارة المستوطنات اليهودية في فلسطين. وعندما قدم ايخمن تقريره بذلك إلى رؤسائه قام فرانك سيكس باطلاع هيدريش عليه يوم 17 حزيران 1937 مقترحاً أعطاء ضمانات لبولكس تتمثل في "الضغط على المؤسسات التنظيمية القومية لليهود الألمان، كي تجبر المهاجرين اليهود على الذهاب حصراً إلى فلسطين وليس إلى أي بلد سواها."
وفي نهاية أيلول غادر آيخمن وهاجن مرفأ كونستانزا في رومانيا إلى حيفا يحمل الأول بطاقة صحفية منحها له صاحب صحيفة برليز ثاغيبلات اليهودي هانز لاشمان، والآخر، بطاقة طالب. دخلا حيفا عبوراً، وزارا جبل الكرمل ثم ذهبا إلى الاسكندرية فالقاهرة حيث حاولا العودة بإذن من القنصلية البريطانية للاجتماع بوفد الهاغانا، لكن الانكليز رفضوا إعطاءهما التأشيرة. وكان أن جاء بولكس إلى القاهرة وحصل الاجتماع في مقهى غروبي.

التيارات الأخرى داخل الحكم الألماني والعرب:
ولكن، هل كانت جميع التيارات داخل الحكم النازي مؤيدة للصهيونية؟ هل كان التأييد واضحاً لإقامة الدولة؟
إن رجلاً مثل بيلوشوانتي مدير ريفرات دوتشلاند، كان يعتبر أن إنشاء كيان يهودي في فلسطين ولو تحت السيطرة البريطانية، سيكون من شأنه تدعيم قوة المجموعة اليهودية العالمية.
وعندما علم عام 1934 أن مسؤولاً صهيونياً ألمانياً هو سيغفريد شيرن قد ذهب إلى باريس لإقناع جابوتنسكي بتخفيف الحصار اليهودي على ألمانيا، وجه رسالة مفصلة لوزارة الخارجية يحتج فيها على السماح لأوساط يهودية ألمانية بالاتصال بأوساط يهودية عالمية لمناقشة أمور داخلية في الرايخ الثالث لا يجوز أن تناقش مع جهات خارجية، وكانت رسالته تعكس تحفظاً عميقاً إزاء الصهيونية.
كذلك كانت هناك أطراف داخل الأجهزة السرية نفسها تعتبر "أن إعلان دولة يهودية، أو قيام فلسطين تحت حكم يهودي سيخلق عدواً جديداً لألمانيا. خصماً سيكون له تأثير كبير على مستقبل الشرق الأوسط" (تقرير أورده كارل شلونس) وأنه سيكون من شأن هذه الدولة أن تؤمن حماية خاصة للأقليات اليهودية في العالم، مؤمنة بذلك حماية شرعية لنشاط اليهودية العالمية."
جهة أخرى ثالثة كانت تعارض التقارب مع الصهيونية هي "المنظمة المكلفة بالخارج" في الحزب النازي التي أنشئت عام 1930، وحصّلت وضعاً رسمياً عام 1934، وكان من المؤثرات في موقفها، موقف الجالية الألمانية في فلسطين (غير اليهودية) التي كانت تنظر باستياء إلى قدوم الهجرة اليهودية. وكان أكثر ما يزعج هؤلاء الألمان غير اليهود اضطرارهم للمرور عبر (الهافارا تراست اند ترانسفير أوفيس) لإجراء معاملاتهم مع الوطن الأم. وزاد استياؤهم بعد ثورة 1936، عندما قسم الانكليز البلاد بين العرب واليهود والانكليز، ووجدت المستوطنات الزراعية الألمانية نفسها في مناطق اليهود. في حين كان أصحابها يرفضون أن يكونوا في الدولة العبرية المقبلة.
في هذه الأجواء جاءت محاولات العرب لثني الألمان عن تشجيع الهجرة اليهودية إلى بلادهم. وهنا لا بد من التوقف عند أمر طالما بدا مثيراً للجدل، وطالما استغله الصهاينة ضد العرب عبر شخص الحاج أمين الحسيني.
وهنا لا بد من سوق عدة حقائق: أولها أنه كان لا بد للحاج الحسيني وهو يقود النضال الفلسطيني من الاتصال بكل القوى الكبرى المؤثرة في الوضع الفلسطيني- الصهيوني، وخاصة الهجرة. وأن ألمانيا كانت قبل الحرب واحدة من هذه القوى، مثلها مثل بريطانيا أو فرنسا أو سواها. وثانيها أن هذه الاتصالات قد بدأت فعلياً حول اتفاق الهافارا... أي لوقف التعاون النازي- الصهيوني، ولم يكن الحسيني أول من بدأها.
لقد كانت أهم قوة عربية في حينها هي العراق - عضو الأمم المتحدة - وكان وزير خارجيتها يونس السبعاوي، من خريجي ألمانيا، يتقن الألمانية، وهو من ترجم كفاحي إلى العريبة ولذلك اعتقد أن بإمكانه أن يتدخل بشكل أكثر فعالية. استدعى السبعاوي سفير ألمانيا لدى بغدا وأبلغه احتجاج بلاده على اتفاق الهافارا ورغبتها في وقفها. ورغم أن السفير وعد خيراً إلا أن شيئاً لم يحصل.
بعد ذلك عقد مؤتمر بلودان في سوريا، وضم مئتي مندوب عربي، بحثوا التورات في فلسطين وكان من بين ما تناولوه اتفاق الهافارا.
إثر ذلك قرر الحاج أمين الحسيني التدخل، فبادر إلى استدعاء القنصل الألماني في القدس، ثم أوفد مساعده يونس بحري، وبعده موفد آخر، تتالت الاتصالات، لكن جميع وعود وقف الهافارا لم تنقذ. وحيث كان هناك- كما ذكرنا- تياران داخل الإدارة الألمانية بخصوص إقامة دولة يهودية في فلسطين، فقد شجع التيار المعارض لهذا المشروع الحاج أمين، كما حاول هو أن يراهن على هذا الجانب، في محاولة لا مجال هنا لتناول جميع تطوراتها.
انقلاب غوبلر- ليلة الكريستال
لكن سياسة الهجرة هذه تعرضت لضربة كبيرة، تاريخية، عام 1938، على يد متطرفي الحزب بقيادة غوبلز، مما يمكن أن نطلق عليه: "انقلاب غوبلز" لأن المؤرخ الألماني هينز هوهن يرى في اندلاع العنف ذاك "تمرداً من صفوف الحزب على الدور المهيمن للأجهزة السرية في سياسة الرايخ الثالث اليهودية." مضيفاً أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن غوبلز، معتمداً على سترايشر لم يستشر لا هيدريش ولا هملر. وأن هتلر نفسه وجد نفسه أمام الأمر الواقع.
لقد استغل غوبلز إقدام يهودي بولوني شاب على اغتيال الملحق الثقافي في باريس، احتجاجاً على إجراءات ترحيل اليهود البولونيين من ألمانيا، ليفجر ليلة 9-10 نوفمبر 1938 التي عرفت باسم ليلة الكريستال حملة عنف رهيبة ضد اليهود.
وجن جنون هملر ورؤسائه فمن أعلن عن رعبه من المجزرة" ومن أعلن أن "ألمانيا قد خسرت معركة أخلاقية" ومن عبر عن استيائه. الخ... وتدخل غورينغ لإعلان غوبلز مسؤولاً، بعمله الأرعن، عن الإساءة إلى سمعة ألمانيا في الخارج. ومن ثم أمر هتلر غوبلز بالتراجع وأوكل مسؤولية المسألة اليهودية إلى غورينغ وحده.
وفي حين فهم الجميع أن هذه العملية هي ضربة موجهة لسياسة الهجرة، حسم هتلر الأمر بأن وجه يوم 24 يناير 1939 الأمر إلى هيدريش باستئناف سياسة الهجرة، وبشكل أكثر منهجية وتنظيماً بعد إنشاء "الإدارة المركزية للهجرة".
وكان الوضع في فلسطين قد أصبح أصعب منذ 1938، وفي 17 أيار 1939 قررت الإدارة البريطانية منع اليهود من شراء الأراضي، لتقرر في أول أكتوبر وقف الهجرة.
لكن الهجرة من ألمانيا استمرت بشكل سري بفضل تعاون الأجهزة السرية مع الهاغانا، بقيادة الياهو كولومب الذي كان قد أسس منذ 1937 مكتباً للهجرة تحت اسم الموساد (اليابث)، وكانت الأجهزة الألمانية تزيد من دعمها لهذا المكتب كلما زادت السلطات البريطانية ضغطها عليه. وفي صيف 1939 منحت عميل الموساد بينو جينسبورغ الذي كان قد وصل إلى ألمانيا مع عميلين آخرين حق ترحيل اليهود بحراً إلى فلسطين من مينائي هامبورغ وايمدن. فوضع خطة، كانت تقضي بأن يشهد شهر أكتوبر 1939 هجرة عشرة آلاف يهودي إلى فلسطين. لكن الحرب اندلعت.
وقد كتب جبنسبورغ: "لقد كانت مكاتبنا أمام مكاتب الغستابو، وكانوا يعرفون تماماً من نحن، وماذا نفعل، ولم تكن اللامشروعية تبدأ إلا على شواطئ فلسطين.
ربما كان الأمر يقتضي التوقف هنا لولا محطة أخيرة هامة ومثيرة، تعود إلى ما بعد اندلاع الحرب، أي إلى عام 1941 وهي عرض التعاون الجديد المعروف بوثيقة أنقرة.
المعاهدة السرية بين عصابة شتيرن والرايخ الثالث
لا شك أن واحدة من أكثر الحقبات المثيرة للدهشة في التاريخ، ليس فقط في تاريخ الصهيونية المراجعة، بل أيضاً في تاريخ الحرب العالمية الثانية، هي عرض التحالف الذي قدمه المسؤولون الإرهابيون اليهود في عصابة شتيرن للمسؤولين القوميين الاشتراكيين في ألمانيا عام 1941 للقتال ضد الانجليز. وتستند هذه الحكاية، غير القابلة للتصديق، إلى وثائق وشهادات دقيقة جداً. وربما كانت ستبدو مجنونة أو هامشية لو أن اسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل اللاحق والمسؤول العسكري عن فريق شتيرن، لم يكن متورطاً فيها.
"لقد أقنعت التجهيزات العسكرية البائسة للإيطاليين في ليبيا واليونان، جماعة شتيرن، بأن إيطاليا لا تمتلك وسائلها السياسية، على عكس ألمانيا، التي كانت تحصد في سنة 1940 نصراً إثر نصر. هذه الانتصارات أثرت في جماعة شتيرن وجعلتهم يندفعون في مغامرة مجنونة دون مآل: بناء تحالف مع ألمانيا الهتلرية. وحتى شباط 1941، راحت تعمل على تحويل هذا الهدف إلى واقع ملموس مستندة إلى تحليل خاص لوضع اليهودية. فهي ترى أن بريطانيا العظمى هي العدو الحقيقي في حين أن ألمانيا ليست سوى قامع ينتمي إلى سلسلة المضطهدين الذي لاقاهم الشعب اليهودي في تاريخه الطويل. وهنا برز الخطأ الرئيسي لشتيرن: فهم يرون في النازية حركة تسيرها "لاسامية عاقلة" (تلك التي كان جابوتنسكي يسميها "لاسامية الأشياء")... لذلك لم يكن تفسير إرسال مندوب عن عصابة شتيرن هو نفتاسكي ليفونشيك إلى بيروت عام 1941، باجتماع باوتو فول هينكنغ، مسؤول قسم الشرق في وزارة الخارجية الألمانية، ينحصر في هدف براجماتي بحت: إنشاء جبهة موحدة ضد انجلترا. ذاك أن النص، وبعد أن يعلن "وحدة المصالح بين أهداف النظام الأوروبي الجديد بحسب الرؤية الألمانية وتطلعات القومية الحقيقية للشعب اليهودي"، يذكر فكرتين قويتين: "التعاون بين ألمانيا الجديدة والحركة العبرية القومية الشعبية الوليدة" عبر مساهمة هذه الحركة في الحرب إلى جانب الرايخ. "والحل الإيجابي الجذري لمشكلة اليهود الأوروبيين بترحيلهم المكثف إلى فلسطين وإنشاء دولة اليهود التاريخية على قاعدة قومية شمولية مع ربطها بمعاهدة مع الرايخ الألماني.
جبهة الرايخ- الصهاينة ضد الانجليز
منذ بداية 1941 عرض لوبنتشيك، وهو مبعوث سري من قبل جماعة شتيرن التي كان الانجليز يطلقون عليها اسم عصابة شتيرن بسبب اعتداءاتها الإرهابية المتكررة، هدنة عسكرية بين المنظمة العسكرية القومية (أي الأرغون التي لم يكن شتيرن إلا فصيلاً منشقاً عنها) وألمانيا. ورغم محاولة إسدال ستار الصمت على هذا الاتفاق إلا أنه بات معروفاً تماماً فقد حمل عنوان (نص أنقرة) ونقل إلى برلين في 11 كانون الثاني 1941 ليعثر عليه فيما بعد في أرشيف السفارة الألمانية في تركيا. وهذا نصه الكامل.
"لقد ألح رجال الدولة الرئيسيون في ألمانيا القومية الاشتراكية، دائماً، وفي جميع خطبهم وتصريحاتهم، على أن إرساء نظام جديد في أوروبا لا بد وأن يتضمن شرطاً مسبقاً هو الحل الجذري للقضية اليهودية عن طريق الترحيل. إن ترحيل جماهير يهود أوروبا هو المرحلة الأولى في حل القضية اليهودية. وفي كل الأحوال فإن الوسيلة الوحيدة لبلوغ هذا الهدف هي إسكان هذه الجماهير في وطن الشعب اليهودي، أي فلسطين وإقامة دولة يهودية ضمن حدودها التاريخية. إن هدف جميع سنوات النشاط السياسي وصراع الحركة من أجل حرية إسرائيل والتنظيم العسكري القومي في فلسطين هو حل المسألة اليهودية بهذه الطريقة وتحرير الشعب اليهودي إلى الأبد. والمنظمة العسكرية القومية التي تعرف حسن النية الذي أظهرته حكومة الرايخ الألماني وممثليها، إزاء الصهيونية، وإزاء البرنامج الصهيوني تطرح للعمل النقاط التالية:
1-هناك مصالح مشتركة بين النظام الأوروبي الجديد المبني على المفهوم الألماني، وبين التطلعات القومية الحقيقية للشعب اليهودي، كما تدافع عنها المنظمة العسكرية القومية.
2-ثمة تعاون ممكن بين ألمانيا الجديدة وبين جماعة يهودية متجددة وعائدة إلى جذورها.
3-إن إقامة الدولة اليهودية التاريخية على أسس قومية وشمولية، وارتباطها بمعاهدة مع الرايخ الألماني، يساهمان في حفظ وتدعيم الوجود الألماني في الشرق الأوسط.
على قاعدة هذه الاعتبارات، وفي حال اعتراف حكومة الرايخ الألماني بالتطلعات القومية لـ"الحركة، لأجل حرية إسرائيل"، فإن المنظمة العسكرية القومية في فلسطين، تعرض أن تساهم بجزء حيوي من الحرب إلى جانب ألمانيا. ويكن أن يتضمن هذا العرض نشاطاً عسكرياً، اقتصادياً، أو استخبارياً داخل فلسطين. –وبعض التدابير التنظيمية- خارجها. وبالمقابل يتم تدريب يهود أوروبا تدريباً عسكرياً ويتم تنظيمهم في وحدات عسكرية تحت إدارة وقيادة المنظمة العسكرية القومية. وي حال تحقق جبهة موحدة، تأخذ هذه الوحدات نصيبها في عمليات قتالية لاحتلال فلسطين. إن المساهمة غير المباشرة لـ"الحركة لأجل حرية إسرائيل" في النظام الأوروبي الجديد، الذي ما يزال في مرحلة تحضيرية، ستدعم بقوة الأسس الأخلاقية للنظام الأوروبي الجديد في عين الإنسانية جمعاء، إذا ما اقترنت بإمكانية إيجاد حل جذري للمسألة اليهودية في أوروبا على أساس التطلعات القومية للشعب اليهودي. كذلك فإن التعاون مع حركة تحرير إسرائيل سيكون متوافقاً مع خطاب ألقاه مؤخراً المستشار الألماني السيد هتلر، يؤكد فيه دعوته إلى جميع التحالفات التي تهدف إلى عزل انجلترا والانتصار عليها.
تتشكل المنظمة العسكرية القومية من مجموعة من القناصة اليهود في فلسطين ومن الحركة المراجعة (التنظيم الصهيوني الجديد) التي كان للمنظمة العسكرية القومية ارتباط وثيق وشخصي معها عبر شخص جابوتسكي، وحتى وفاته. لكن موقف المنظمة المراجعة في فلسطين المؤيد للانجليز جعل تجديد هذا الاتحاد الشخصي مستحيلاً. وأدى إلى قطيعة كاملة بين الاثنين في خريف هذا العام، وإلى استئناف المنظمة العسكرية القومية لنشاطها بعد هذا الانشقاق.
إن هدف المنظمة العسكرية القومية هو إقامة دولة يهودية ضمن حدودها التاريخية وعلى عكس جميع التيارات الصهيونية، ترفض المنظمة الفكرة القائلة بأن التسلل الاستعماري الاستيطاني هو الوسيلة الوحيدة لدخول البلاد وامتلاكها تدريجياً. كلمة السر لديها هي: القتال والتضحية، كوسيلة وحيدة لتحرير واحتلال فلسطين. ونظراً لطبيعتها العسكرية وموقفها المعادي للانجليز، والذي يجعلها عرضة للقمع الدائم من بل الإدارة الانجليزية، تجد المنظمة العسكرية القومي نفسها مضطرة لممارسة نشاطها السياسي بشكل سري وكذلك، الإعداد العسكري لأعضائها في فلسطين.
لقد تميزت المنظمة التي بدأت أعمالها المسلحة منذ خريف 1936 تميزت بشكل خاص اعتباراً من عام 1939، بعد نشر الكتاب الأبيض الانجليزي، وذلك بتكثيفها لنشاطها الذي تكلل بالنجاح، في إرباك ومقاطعة المحتل الانجليزي. مما جعل جميع وسائل الصحافة في تلك المرحلة، تورد نشاطها، وتشير إلى بث إذاعتها السرية اليومية، وتعلق عليهما.
وقد كان للمنظمة، حتى بداية الحرب، مكاتب سياسية مستقلة في كل من فارسوفيا، باريس، لندن، ونيويورك. وكان مكتب فارسوفيا يهتم بشكل رئيسي بالتنظيم العسكري وتدريب وبناء الشباب القومي الصهيوني. كما كانت تقيم علاقات وثيقة مع الجماهير اليهودية التي كانت تتابع نظامها بحماس، خاصة يهود بولونيا الذين كانوا يساعدونها بكل الوسائل الممكنة. كذلك أصدرت صحيفتين في فارسوفيا.
من جهة أخرى كان مكتب فارسوفيا يقيم علاقات وثيقة مع الحكومة البولونية ومع الدوائر العسكرية التي كانت تراقب بأكبر قدر من الاهتمام والتفهم جهود المنظمة العسكرية القومية. التي قامت عام 1939، بإرسال وحدات سرية من عناصرها من فلسطين إلى بولونيا. حيث كان ضباط بولونيون، يقومون بتدريبهم وبنائهم العسكري في مراكز تدريب خاصة. لكن المفاوضات التي كانت دائرة بين المنظمة والحكومة البولونية لأجل تطوير مساعدتها بشكل ملموس، توقفت مع بداية الحرب. وهكذا فإن المنظمة، وبطبيعة بنيتها ورؤيتها للعالم هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحركات الشمولية الأوروبية. أما شل قدرتها القتالية، فلم يكن ممكناً، في أي لحظة، وذلك بسبب تدابير الدفاع الجذرية، إزاء الإدارة الانجليزية والعرب وإزاء الشيوعيين اليهود."
للوصول إلى إنجاح هذه الوثيقة قامت جماعة شتيرن بعدة مناورات تقارب، لدى الفرد روزر، مسؤول أجهزة الاستخبارات العسكرية الألمانية، واتو فون هينغ عضو وزارة الخارجية الألمانية والذي كان يعتبر رئيس الأجهزة السرية في دمشق وعليه تم ترتيب لقاء سري مع هذا الأخير في بيروت. "لم يخف ممثل ألمانيا أوتو فون هينغ، عن المبعوث الصهيوني لوبنتشيك، بأن في بلاده تياراً مؤيداً لإقامة دولة عبرية في فلسطين وأن هذا يمثل حلاً عملياً للمسألة اليهودية. وعلى أية حال فقد كان يعتقد بأن هذا التيار قد أصبح ضعيفاً بحيث لم يعد قادراً على أن يؤثر إيجابياً على قرارات الحكومة وأنه، وفي جميع الأحوال، قد فات الأوان على العمل. فقد قررت هيئة الأركان أن تؤمن لنفسها، في صراعها ضد بريطانيا في الشرق الأوسط، مساعدة العرب الذين يعدون بالملايين، وذلك أفضل من مساعدة اليهود الذين لم يكونوا إلا حفنة صغيرة. لكنه، وبالرغم من كل ذلك، وعد بنقل العرض المقترح إلى برلين. دون أن يتلقى لوبنتشيك جواباً أبداً."
سر خبـّئ لمدة ثلاثين عاماً
في 11 كانون الثاني عام 1941، أرسل هذا العرض إلى السفارة الألمانية في أنقره، حيث وجد بعد الحرب. ولا يعرف ما إذا كانت السلطات الألمانية قد ردت عليه وما هي ماهية الرد. علماً بأن جماعة شتيرن قد أرسلت إلى فون هينغ مبعوثاً آخر هو نافان ياكين مور، مدير جريدة الأرغون وواحد من قادة شتيرن الثلاثة. لكنه اعتقل في سوريا، بعد الهزيمة الفرنسية في تموز 1941 بينما كان يحاول أن يصل إلى تركيا.
لقد حاول البعض التشكيك بصحة وجود هذه الوثيقة، إلى أن قام أحد زعماء شتيرن التاريخيين وهو إسرائيل الداد سناب، بتأكيد وجودها قائلاً بأن رفاقه قد أوضحوا للقوميين الاشتراكيين أن "تماثل المصالح بين نظام جديد في أوروبا مبني على الرؤية الألمانية وبين تطلعات الشعب اليهودي في فلسطين ممثلة بالمقاتلين لأجل حرية إسرائيل (ليحي) هو أمر ممكن". كذلك فإن صحيفة هآرتز، قد كشفت النقاب عن وجود وثائق سرية أخرى، ومنها رسالة موجهة في كانون الثاني 1941 من السفير فرانز فون بابيل إلى وزارته في ألمانيا حول الاتصالات مع فريق شتيرن، والتقرير الذي قدمه العميل السري وورنر أوتو فون هينغ. كما أن صحيفة حوتام الأسبوعية قد أكدت أخيراً أن هذه الوثيقة حملت توقيعي اسحق شامير وآبراهام شتيرن، وقدمت إلى سفارة ألمانيا عندما كانت جيوش رومل ما تزال في مصر. ويبدو أن اسحق شامير (الذي كان ما يزال يحمل اسمه الحقيقي، اسحق يزرنسكي) والذي أصبح يما بعد وزيراً لخارجية إسرائيل ومن ثم رئيساً لوزرائها، هو أحد الذين حرروا هذا العرض، وذلك بفعل موقعه في منظمة شتيرن.
ولد شامير عام 1915 في روزني، في بيلوروسيا، حيث كان أبوه قد أسس مدرسة لتدريس العبرية، وبسرعة التحق الابن بالنضال في صفوف الحركة المراجعة. وصل إلى فلسطين عام 1935، وفي العام التالي أصبح مدرساً عسكرياً في "خلايا العمل الصهيوني" في منطقة تل أبيب. ليصبح منذ 1940 أحد أقرب المقربين إلى آبراهام شتيرن. أما بخصوص هذه الوثيقة فقد اضطر شامير مؤخراً إلى الاعتراف بأنه كان على علم كامل بمشروع العرض المقدم للرايخ الثالث في عز فترة اضطهاد اليهود في أوروبا، لكنه أكد أنه كان معارضاً لهذا المشروع. غير أن تأكيده لا يقنع أحداً، كونه كان في تلك الفترة واحداً من القادة الرئيسين في المجموعة الإرهابية. وقد عمل باروخ نال، وهو باحث وكان عضواً في مجموعة شتيرن، ثم انفصل عنها، طويلاً على معرفة درجة تورط شامير في هذه المفاوضات وتوصل إلى أنه من المقنع قطعياً أنه كان على علم كامل بذلك. أما المؤرخ ليني برينر فيتحدث كذلك عن "أكذوبة رسمية ناضجة". بدليل أن شامير كان مكلفاً، ففي خريف 1941، من قبل شتيرن بتنظيم حملة مساعدة وجمع تبرعات لملء صناديق المنظمة والسماح بتنظيم رحلة لمبعوثيها إلى ألمانيا. ويبدو أن سياسة التعاون هذه لم تتوقف فور موت ابراهام شتيرن وتولي اسحق شامير القيادة. بل أن مصادفة تزامن هذا الانتقال مع حدوث منعطف حاسم في الحرب، جعل موضوع انتصار الرايخ الثالث موضع شك أكثر فأكثر، هي التي دفعت شامير إلى عدم لعب ورقة التعاون هذه، بصفته قائداً للمنظمة.
خلال عام 1941 أوقفت الشرطة البريطانية اسحق شامير، وفي 21 شباط 1942 قتل ابراهام شتيرن. في 1 أيلول من العام ذاته هرب شامير من معسكر ميزرا حيث كان معتقلاً، وأطلق الحركة من جديد تحت اسم (ليحي) (المقاتلون من أجل حرية إسرائيل). وبهذه المناسبة وكما هو التقليد في المنظمات الإرهابية، عمد شامير إلى إعدام ثلاثة من أعضاء المنظمة الذين لم يكونوا يتجاوزون العشرين: مسؤول الاستخبارات الذي اتهم بالتعاون مع البيطانيين، وعنصر هرب من القتال، وأفضلُ خبير في الاعتداءات اتهم بأنه بالغ التطرف وخارج عن السيطرة. وعندما أصبح شامير وزيراً للخارجية، أعاد الانجليز إلى الأذهان أنه كان منظم عمليتي اغتيال شهيرتين: اغتيال اللورد من المندوب العام البريطاني في مصر في 6 تشرين الثاني 1944 واغتيال الكونت فولك برنادوت الوسيط الخاص للأمم المتحدة في فلسطين في 17 أيلول 1948 أي بعد أن أصبحت إسرائيل دولة مستقلة.
في عام 1946 اعتقل شامير مرة أخرى، وذلك بعد عملية فندق داود في القدس، نقل إلى أسمره في آريتيريا ومن هناك هرب إلى جيبوتي في كانون الثاني عام 1947. لكنه أعيد إلى السجن إلى أن أطلق سراحه وزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان الذي منحه اللجوء السياسي في فرنسا بطلب من المنظمات اليهودية المتطرفة هناك. وفي أيار 1948 ظهر شامير من جديد في الدولة الإسرائيلية الوليدة، حيث تابع تنظيم وتنسيق العمليات الإرهابية. إلى أن تم حل ليحي بأمر من بن غوريون بعد اغتيال الكونت برنادوت في 17 أيلول 1948. ويذكر أن يالين مور الذي كان المندوب الآخر لفريق شتيرن، كما ذكرنا، قد اعتقل بعد عملية الاغتيال المشينة هذه وحكم بثماني سنوات سجن بتهمة ممارسة الإرهاب. ولم يلبث أن صدر بحقه عفو في السنة التالية، إثر انتخابه عضواً في الكنيست. بعد ذلك وضع شامير معارفه في موضوع الإرهاب والخطف في خدمة الموساد، حيث أصبح منذ عام 1955 أحد أهم مساعدي عايزر هاريل رئيس الأجهزة السرية. وفي عام 1965 وهو تاريخ وصوله إلى التقاعد، كان رئيساً لمكاتب الموساد الخاصة بأوروبا. بعد أن تفرغ بضع سنوات لهذا العمل، التحق بحزب حيروت في عام 1970 ليباشر حياة سياسية متسارعة: ينتخب عضواً في الكنيست في كانون الثاني 1973 ثم يصبح رئيساً لها بعد ذلك بسنتين. ثم ناطقاً رسمياً باسمها عام 1977 قبل أن يحل محل موشيه دايان في وزارة الدفاع في آذار 1980..